في الفكر والسياسة
»إذا كان روزفلت وتشرشل وستالين هم أبطال الحرب العالمية الثانية الذين فرضوا بعد ذلك سياساتهم علي العالم، وإذا كان ريجان وتاتشر وجورباتشوف هم من حددوا شكل النظام العالمي حتي يومنا هذا، فإن جمال عبد الناصر وجوزيف بروز تيتو وجواهر لال نهرو زعماء فرضوا وجودهم باعتبارهم رموزاً معبرة عن روح العالم الثالث ونزعته نحو التحرر والاستقلال». بمثل هذا تحدث الأكاديمي والمفكر السعودي د. تركي الحمد في كتابه »ويبقي التاريخ مفتوحاً: أبرز عشرين شخصية سياسية في القرن العشرين». ورغم عشرات الكتب الغربية ومئاتها العربية التي مجدت عبد الناصر، فقد آثرت الاستشهاد بتركي الحمد لأنه جاء من دولة عداؤها لناصر تاريخي وأبدي. وفي استفتاء النيوزويك عن شخصية القرن العشرين انحسرت المنافسة بين جمال عبدالناصر ونيلسون مانديلا الذي طالب بكل قوة أن تذهب المقارنة لصالح عبد الناصر وقال قولته الشهيرة »لقد ناضلت من أجل تحرير بلادي، لكن ناصر ناضل من أجل تحرير العالم الثالث كله». قضي»مانديلا»، في مصرفترةطويلة في الستينيات حيث جاء مشياً علي الأقدام لمدة شهرين لأنه كان مطارداً وعلي قوائم الترقب في المطارات حتي وصل السودان، ومنها ركب الطائرة بترتيب من ناصر ومحمد فايق. كانت إقامته في الجمعية الإفريقية »المقر المصري التاريخي» لحركات التحرر الوطني في 5 ش أحمد حشمت بالزمالك، والتقاه جمال عبد الناصر وصرح له بفتح مقر في الجمعية لحزبه »المؤتمر» لتحرير جنوب إفريقيا. واسألوا في ذلك السفراء محمد فايق وسيد أبوزيد عمر وأحمد حجاج وكذا د. محمد عبداللاه الذين عاصروا هذه الأحداث وسمعت منهم رواياتها.
قضي »مانديلا» 27 عاما في سجون جنوب إفريقيا بتهمة إثارة العنف والتآمر مع دول أجنبية، وبعدالإفراج عنه في عام 1991،قرر أن تكون مصر أول بلد يزورها،واستقبلته مصر رمزاً للنضال من أجل الحرية، وازدحمت الشوارع بمؤيديه المصريين والأفارقة، وبسبب الزحام الشديد فقد »مانديلا» حذائه حيث كانت المفارقة كأنما الظروف شاءت ألا يطأ حذاء المناضل تراب الوطن الذي أنجب ناصر وحرر أفريقيا.
من شهادته حول 23 يوليو وناصر، أنه بينما كان يرزح في سجنه كان دائما ما يشب علي قدميه للتريض كل صباح ويضيف ضاحكاً لكأنما كنت أشب ليراني ناصر ويأتي لتحريري ورفاقي. وبالفعل فلم يغب ذلك عن ذهن عبد الناصر وقاد حملة دولية كبري في مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة والمؤتمر الأفرو أسيوي ومؤتمر دول عدم الانحياز لمحاصرة ومقاطعة ما أسماه »نظام بريتوريا العنصري» في كيب تاون حتي نالت جنوب إفريقيا استقلالها الذي لم يقدر لناصر أن يراه ويعايشه.
هذا هو جمال عبد الناصر الذي أنهي مستقبل أنتوني إيدن وحزب المحافظين البريطاني وأجبره علي الاستقالة جراء العدوان الثلاثي في 1956 واعتزال السياسة، وتسبب في تقويض النفوذ البريطاني في الشرق الأوسط والعالم كله، وصدق ناصر حين قال عام 1962 في العيد العاشر للثورة التي لايزال بعض الأنطاع يسمونها حركة الضباط:»إن هذا الجيل جاء في موعده مع القدر، لقد كان 23 يوليو سنة 52 بدء تاريخ جديد لهذه الامة الثائرة المناضلة، نجحنا في القضاءعلي الاستعمار وأعوان الاستعمار، وأثبت هذا الشعب إنه يستطيع أن يهزم قوي الطغيان ويستطيع أن يحول دول كبري الي دول من الدرجة التانية ودول من الدرجة التالتة». وبعدها يأتي من يهرف بجهل وتغاب أن ناصر هزم في 56، وأنه أضاع أموالنا في حرب اليمن وهو كلام غير صحيح وارجعوا لما كتبه د. عاصم الدسوقي ود. إسماعيل صبري عبدالله عن التخطيط المركزي والخطط الخمسية وكيف حققت نمواً وصل إلي 6،8% رغم حربي اليمن و67.
هذا هو جمال عبدالناصر الذي يحمله البعض خطايا الأنظمة اللاحقة بدعوي أنها نظام يوليو، ويوليو براء مما فعلوه به وبها، إنهم أنظمة الانقلاب علي يوليو بدءاً بأنور السادات الذي سار علي طريق ناصر، ولكن »بأستيكة»، وتلاه مبارك في نهجه، واعتمدا التوجه نحو رهن القرار المصري في يدي أمريكا التي قالوا إنها تملك 99% من أوراق اللعبة في الشرق الأوسط، واعتمدا السلام الدافئ مع اسرائيل بينما ناصر شكل عظمة صلبة في حلق السياسات الامبريالية والمخططات الصهيوأمريكية. كان ناصر يعمل علي التحول الاشتراكي، كفاية الانتاج وعدالة التوزيع وكرست سياساته للعدالة الاجتماعية وحماية الفقراء والمساواة وتكافؤ الفرص والملكية العامة لوسائل الانتاج واستقلال القرار الوطني، وجاءوا بعده ليفسخوا ذلك العقد الاجتماعي وينهوا آخر معاقل المقاومة لصالح أمريكا وإسرائيل، ثم يجئ الليكوديون الجدد وسواقط القيد السياسي ليلمزوا في الرجل ويحاولوا اغتياله رغم أنه رحل منذ نصف قرن. لكنه ناصر الذي لايغيب.