الأهرام
يسرى عبد الله
التصورات الجاهزة تغزو النخبة
على الرغم من التغيرات الهائلة التى طرأت على نظرية المعرفة، والتحولات الفكرية المتسارعة التى تنتاب العالم جميعه، غير أنه لم تزل هناك بعض التصورات التقليدية التى تهيمن على التصورات المعرفية لدينا، بدءا من الإصرار المستمر على مصطلحى النخبة والجمهور ووضع النخبة فى مقابل الجماهير، وليس بوصفهما شريكين فى إنتاج المعرفة بالعالم والواقع والأشياء خاصة مع العطاءات الفكرية المهمة لأفكار ما بعد الحداثة فى اتخاذها من التجاور بين الصيغ المختلفة أداة للوجود فى العالم وفهمه والتعبير عنه أيضا. ومن اللافت أن تلقى النخبة للأفكار والمفاهيم والمصطلحات الغربية يشوبه كثير من المجانية، وعدم الفهم، والخلط المستمر بين الأشياء، وليس ذلك مرده فحسب للمشكلة التقنية للمصطلح، فيما يعرف بأزمة المصطلح، وليس أيضا بسبب اختلاف سياق التلقى الحضارى للمصطلح من بيئة سياسية وثقافية إلى بيئة أخري، ولكن بالأساس بسبب الوعى الجاهز لدى كثير من النخب المصرية والعربية، التى تطرح خطابا حداثيا، وتحمل جوهرا سلفيا، فى ظل حالة من تسييد التأسلف العام، تعد نتاجا لتحولات سياسية واجتماعية شهدتها المنطقة، ورعتها حكومات ودول فى إطار التحالف الذى لا ينتهى بين بعض القوى الكبرى وحلفائها الإقليميين والتيارات الدينية فى العالم العربي.

ومن بين المصطلحات التى تعبر وبشكل جلى عن الفهم الجاهز للمصطلح والتلقى المغلوط الناتج عن بنية معرفية تمجد الساكن، والثابت والمألوف مصطلح النهضة، وربما لم يتعرض مصطلح للتداول بين النخب وأشباه النخب مثل مصطلح النهضة، وقد ابتذلته جماعة الإخوان تماما وأنهكته بالجمل العبثية من قبيل طائر النهضة الذى كان يشغل بال الرئيس المعزول كثيرا وبات المصطلح وسياقه الحضارى والمعرفى وغاياته فى طرف، واستخداماته من قبل الجماعة والمحيطين بها فى طرف آخر، فالنهضة التى كانت فى أوروبا علامة على حركة ثقافية استمرت تقريبا من: القرن الرابع عشر الميلادى إلى القرن السابع عشر، فبدت وكأنها خروج من العصور الوسطي، حيث كانت بدايتها فى أواخر «العصور الوسطي» من إيطاليا ثم انتقلت إلى أنحاء أوروبا، صارت فى عرف الجماعة الظلامية مصنعا للعقل الرجعي، ومنتجا لآليات التخلف والعبث العام.

وربما تكون عزيزى القاريء قد طالعت كثيرا عناوين مغرقة فى الجدية من قبيل سؤال النهضة، واستخدامات متواترة للمصطلح من قبل باحثين وربما مفكرين، وتم التعامل مع فكرة النهضة باعتبارها طوقا للنجاة، وسفينة الوصول إلى بر التقدم، وربما يكون من المهم للغاية أن نشير إلى أن فكرة النهضة ظلت محل تساؤل فى الغرب المتجدد ذاته، فعصر النهضة الأوروبى حوى جذرا ارتداديا للماضي، حيث عده بعض المفكرين الأوروبيين بوصفه توقا للماضى وبعثا لكل ما هو كلاسيكى وفى الثقافة العربية بل وفى الذهنية العامة هناك ولع كبير بالماضى وبمحاولة المزج بينه وبين الحاضر ولذلك ستكون الصيغ التوفيقية غاية كبرى لدى معظم المفكرين الذين نراهم وبما يعنى استمرار الرطان الجاهز عن التراث والحداثة، والأصالة والمعاصرة وغيرها من البنى الفكرية الجاهزة التى تسهم فى تنميط العالم باستمرار. وحين يستخدم الكثيرون هنا مفهوم التنوير فإنهم لا يعنون به جوهره فى الحقيقة، وقد تجد ظلاميا بامتياز يستخدم مصطلح التنوير ليلا ونهارا، فالرطان أصبح سيد الموقف، والتعمية فى تحديد المفاهيم وضبطها صار متنا، ففكرة الخروج من القصور العقلى حيث يفكر الناس عبر الآخرين إلى أن يصبحوا مفكرين بأنفسهم، وهى مركز التنوير، تغاير مثلا بعض تصورات النخبة فى ضرورة أن يفكروا هم بديلا عن الجماهير، ويتسق مع هذا أيضا تجاهل الكثيرين إلى أن قلب التنوير الحى كان وسيظل فى الدفاع الخالص عن العقلانية، ومغادرة قيم التسليم واليقين والأجوبة الجاهزة إلى براح التفكير والمساءلة والعقل النقدى الشاك باستمرار، والذى يتعامل مع السؤال بوصفه عين الجواب ومقدمته وروحه التى لا تجعلنا نكف عن التأمل والتفكير والوعى المتجدد بالعالم.

وفى سياق التلقى الجاهز لكثير من النخب لمفهوم التنوير رأينا محاولة لعزل التنوير عن الجماهير، وبدأنا ندخل فى بؤس التنوير المزيف، الذى لم يؤثر فى تغيير أنماط التفكير والبنى الذهنية، ولا مواجهة الرجعية الظلامية، فبدا الخطاب حنجوريا بامتياز، ولم نجد أفكارا حقيقية، وإنما وجدت تصورات مبتورة، لم تدرك أن التنوير حالة مجتمعية بالأساس، وأنه موصول بمناخات مختلفة تتصل بالإعمال الدائم للعقل، وبترسيخ الفكر النقدي، وتوسيع مدى الحريات البحثية والفكرية وحريات التعبير، والأهم ضرورة التأكيد على ترسيخ التصورات العلمية داخل المجتمع فى النظر للظواهر المختلفة.ربما نحتاج لعمل شاق، نبدأ فيه من مساءلة ذواتنا، كى ننهض على نحو حقيقي، ونعانق قيم التقدم والتنوير بحق، ونحسم خياراتنا الفكرية التى تراوح بين الماضى والحاضر، لنختار المستقبل، أملا فى عالم أكثر جمالا وتقدما وإنسانية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف