كان ذلك فى بداية الألفية الحالية، حيث الفنان التشكيلى المصرى المتميز (سندباد صادق)، يصطحب أسرته لنزهة فى إحدى حدائق الحيوان، ولأن حراس الحديقة وعمالها طالهم ما طال المجتمع المصرى من عوار عقود الفساد والإفساد التى انطلقت من قاعدة اتكالية تواكلية عنوانها (إن فاتك الميرى اتمرغ فى ترابه)، وهى القاعدة التى خَلَّفَتْ أجيالاً من الموظفين بلا عمل، والعاملين بلا إبداع، والمبدعين المُدَّعين، والمُدَّعِين بلا أى برقع للحياء. وخلالها تحولت العلاقة بين المواطن والدولة، من علاقة انتماء توَلِد لدى الفرد طاقات للمشاركة فى بناء الوطن، إلى علاقة اغتراب تحيل المواطن إلى كائن سلبى انتهازى يرى فى كامل مكونات الوطن (سبوبة) يمكن (تَسليكها) حينما تسنح الفرصة. عبر هكذا عيون رأى معظم حراس الحيوانات بالحديقة التشكيلى المصرى فى أثناء زيارته لها، وهو ما أهَلَّهُمْ جميعا لتقييمه باعتباره (صِيدَه)، ووِفقْ قواميس المرحلة ينطبق عليه قاعدة (فَرَّجْ الخواجة على الأراجوز)، وبالتالى حرص كل حارس على أن يعرض على التشكيلى (تأكل الفيل يا دكتور ـ تتصور مع السيد قشطة يا دكتور)، ولسبب ما أجْمَعَ العاملون بالحديقة على أن يمنحوا التشكيلى المصرى درجة (الدكتوراه) حيث إن هيئته تدل على أنه مُتَمِّيز بغير سلطة وبالتالى (ما يَاكلشْ معاه أن ينادوه يا باشا).
عاشت مصر وأهلها سنوات من التجريف الممنهج، حيث تضافرت مكونات المرحلة لصناعة مواطن منزوع من جذوره، ومنفصل عن أصوله، ومغيب عن ثقافته، فالفاسد اللص يرى فى شيوع اللصوصية فرصة لتمكنه من سرقة (الجمل بما حمل)، بينما أهل القافلة منشغلون بسرقة جيوب فارغة أصلا، والفاسد المستثمر للدين يؤمن أن أفكاره لا تنبت إلا فى الظلام وبالتالى يحرص على أن يوارى كل ضى لوعى أو قيمة أو مبدأ، وهكذا بات الفيلم المفضل لدى الجميع هو (يا عزيزى كلنا لصوص).
يواصل التشكيلى المصرى رحلته داخل حديقة الحيوان، حتى يصل إلى (الطاووس)، وبحكم عين الفنان يتوقف طويلاً أمام مزيج الألوان الربانى التقدير والمقادير، بينما الحارس يبدأ محاولاته لتقليب (الزبون)، قائلا (تتصور يا دكتور مع الطاووس)، ويبتسم الفنان الذى ليس (دكتورا) للحارس مؤكدا أنه سيفعل ولكن بعد قليل، كان يريد أن يواصل تسجيل المزيج اللونى الفريد الذى يتحرك أمامه، لكن الحارس تحركه نار اللهفة لما سيخرجه (الدكتور) من جيبه، يقاطع حركة الفنان أمام الطائر قائلا (على فكرة يا دكتور أنا ممكن أخليه يتحرك لو عاوز تشوفه من الجنب)، يرسم الضيق ملامحه على وجه الفنان فيبتسم ابتسامة باهتة (يا سيدى شكرا أنا شايف كويس)، وتتبدد كل محاولات انفراد الفنان بالطائر مع عروض الحارس التى لا تتوقف، فيقرر الأول أن يستجيب له أملا فى أن يدعه لتدبره بعد التصوير، ومن جانبه يقرر الطائر أن يكافئ الفنان على صبره فى مواجهة حارسه، فيشرع كامل ردائه حين يُخرج الفنان كاميرته للتصوير، وبعد التقاط الصور يلتقط الحارس ما جاد به الفنان بسخاء، ولكنه يكتشف أن (الزبون) تنطبق عليه مواصفات قاموس المرحلة التى تقول (إنه زبون حاتى وجاى مِنُّهْ)، ولهذا عاد الحارس ليُباغت الفنان هامسا فى أذنه كمن يتحدث فى صفقة مخدرات، (ليك فى ريش الطاووس يا دكتور؟!)، اندهش الفنان من تطور آليات (تقليب الزبون) لدى الحارس، لكنه أُعجِبَ بالعرض من ناحية ورآه فرصة نهائية للخلاص من مقاطعاته للتأملات فى الطائر، وكان أن وافق وحصل على عدد من ريشات الطاووس كان يلفها الحارس فى ورقة جريدة ودسها سريعا فى حقيبة الكاميرا وحصل على (نفحته السخية)، كان يضعها فى جيبه، بينما لسانه يقول (والله ما له لازمة يا دكتور خيرك سابق ومن غير أى حاجة والله)، هكذا تُقال الجملة فى كل مجال ومكان، فالأصل فى المواطن الموظف أنه (بِيْقَلِّبْ عِيشُه)، حيث إن الوظيفة مجرد باب ضامن لراتب أمَّا الدخل الرئيسى فهو ذلك الذى يتم (تقليبه). وهكذا عاد التشكيلى (سندباد صادق) لتأملاته بعدما وصل للحارس ما يأمل وزيادة، لكن هذا الأخير قرر أن يكسر حاجز كل خيال لدى الفنان، فوقف إلى جواره تماماً كما يقف الفنان، وكأنه لا يعرفه ولم يره من قبل، وبينما هو فى مواجهة الطاووس قال بصوت خافت (من غير ما تبص لى يا دكتور، إيه رأيك تشترى بيض طاووس)، لم يتمالك الفنان المصرى نفسه انفجر فى الضحك حتى كاد يسقط على الأرض، وبدأ يتحرك خارجاً من الحديقة وهو يضحك ضحكات قال إنها مُرَّه.