أحمد يوسف أحمد
معهد البحوث والدراسات العربية
احتُفِل فى 17يوليو الماضى بالقاهرة بوضع حجر الأساس للمبنى الجديد لمعهد البحوث والدراسات العربية التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم برعاية السيد أحمد أبو الغيط أمين عام الجامعة العربية، والدكتور خالد عبد الغفار وزير التعليم العالي، وقد أكد الأمين العام فى كلمته اهتمامه بالمعهد، وهو اهتمام صادق تبدى فى زيارته مقره الحالى فور توليه منصبه وتفقده سير العمل فيه وإبدائه ملاحظات قيمة فى هذا الشأن، كذلك أعرب وزير التعليم العالى عن ابتهاجه بالمناسبة كتعزيز لصرح علمى يسهم فى تكوين أجيال جديدة من الباحثين مؤكداً دعم الحكومة المصرية للمعهد، ثم ألقى الدكتور سعود هلال الحربى المدير الحالى للمنظمة وصاحب الفضل الأول فى دفع مشروع المبنى الجديد كلمة ضافية عن المعهد ودوره وأهمية المقر الجديد فى تعزيز هذا الدور، وفى لفتة كريمة أشاد الرجل بدور مديرى المعهد السابقين وأساتذته رغم محاولة «الإدارة العميقة» بالمعهد محو الإنجازات السابقة، وكان قد دعا مديرى المعهد السابقين لحضور حفل وضع حجر الأساس فى تصرف يعكس أصالته ورقيه الأخلاقي، ومعهد البحوث والدراسات العربية لمن لا يعرفه مؤسسة تعليمية عريقة للدراسات العليا أُنشئت فى رحاب الجامعة العربية عام 1952على يد المفكر القومى الكبير ساطع الحصرى بهدف إثبات ألا تناقض بين العروبة والعلم بمعنى أن الإيمان بالعروبة ليس مجرد مسألة عاطفية، ولكنه إيمان يعززه العلم أى إن المناداة بالوحدة العربية مثلاً ليست العاطفة مبعثها الوحيد، وإنما أيضاً أن للوحدة مردودها الإيجابى على المنضوين تحت لوائها إن أُحسِن الإعداد لها، وعبر العقود رأست المعهد قامات عالية كـ «طه» حسين ومحمد شفيق غربال ومحمد خلف الله أحمد، وفى ظلها قدم المعهد مساهمات تأسيسية فى الدراسات العربية فى مجال العلوم الاجتماعية وتخرجت أجيال من الباحثين المؤهلين فى هذا المجال، وفى 1970 انتقلت تبعية المعهد إلى المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم التابعة للجامعة العربية.
وقد شهد المعهد منذ تسعينيات القرن الماضى طفرة نوعية بإضافة أقسام علمية جديدة حتى وصل عدد أقسامه إلى عشرة، فضلاً عن التوسع الرأسى بإضافة برنامج للدكتوراه مع تطوير المناهج التعليمية، والاستعانة بخيرة الأساتذة والانضمام لاتحاد الجامعات العربية، ومعادلة الدرجات العلمية التى يمنحها المعهد من المجلس الأعلى للجامعات المصرية، وترتبت على هذه النقلة النوعية طفرة كمية فى أعداد الدارسين بالمعهد من معظم الأقطار العربية وبعض الدول الإفريقية وتولوا بعد تخرجهم أرفع المناصب الأكاديمية والسياسية فى بلدانهم، ومع تفاقم الأزمة المالية فى مؤسسات العمل العربى المشترك طور المعهد تجربة رائدة فى التمويل الذاتى استندت إلى فرض رسوم دراسية رمزية فى متناول الجميع مع إعفاء المتفوقين والمعسرين بسبب ظروف بلدانهم، وهكذا لم يُحرم دارس واحد من الدراسة لأسباب مالية، ومع الحوكمة المالية والإدارية والإقبال الشديد على الدراسة بالمعهد نتيجة تطويره أصبحت موارده كافية لتمويله بالكامل، بل لقد أصبح يسهم بـ 20% من إيراداته فى تمويل المنظمة ذاتها، وعندما بدت الحاجة ملحة لمبنى جديد للمعهد أمكن من هذه الموارد الذاتية شراء قطعة أرض فى حدود عشرة آلاف متر مربع فى مدينة 6 أكتوبر لبناء مقر جديد يليق برسالة المعهد وتوسعاته المستقبلية، وبسبب هذا النجاح تعرض المعهد لحملات ضارية، فهوجم من أنصار الفرانكفونية فى المغرب العربى لأنه أصبح مركز جذب لكل الراغبين فى تكوين علمى عروبى أصيل، وهوجم من أصحاب الجامعات الخاصة فى المشرق العربى لأن تكلفة السنة الدراسية فيه كانت أقل من تكلفة ساعة معتمدة واحدة فى هذه الجامعات، وهوجم من أنصار الجمود الاجتماعى فى بلدان عربية عديدة لأنه مثل آلية للحراك التعليمى للجميع وليس للموسرين فقط، وهوجم من أنصار الطائفية والتعصب لأنه احتضن دارسيه من السنة والشيعة والأكراد وغيرهم فى قاعاته الدراسية وفى ظل منهجية علمية موضوعية قدمت نموذجاً للعروبة كما ينبغى أن تكون، وصمد المعهد وواصل نجاحه إلى أن تولى إدارة المنظمة من انتمى إلى صفوف المهاجمين فكانت الأزمة الشهيرة التى ترتبت عليها تنحية مديرته السابقة بعد إجراءات تفوق الخيال فى انتهاكها لأبسط القواعد القانونية وهى إجراءات قضت المحكمة الإدارية للجامعة العربية لاحقاً بفسادها وإلغائها، كما أدت هذه الأزمة إلى تراجع واضح فى مسيرة المعهد.وقد ظلت الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ إلى أن قيض الله للمنظمة أن يتولى إدارتها الدكتور سعود هلال الحربى الذى لم يتردد فى تصحيح ما وقع من أخطاء ومظالم كشفت الآليات الرقابية لاحقاً مدى إمعانها فى انتهاك القواعد القانونية المستقرة فى التعيينات والترقيات وصرف المكافآت، غير أن الأهم من ذلك أنه كان أول مدير للمنظمة يؤمن بأهمية تشييد المبنى الجديد لمعهد البحوث والدراسات العربية بالنسبة لمستقبله، فحرك فور توليه منصبه المياه الراكدة فى مشروع المبنى الجديد الذى كان قد اكتمل أرضا وتصميما قبل مجىء الإدارة السابقة، وزاد على ذلك أن حماه من اغتصاب دُبر بليل لنصف هذه الأرض لمصلحة إقامة مبنى لجهاز آخر تابع للمنظمة لا يجوز إنشاؤه فى مصر أصلا بحكم قواعد المجلس الاقتصادى والاجتماعى للجامعة العربية، ولذلك فإن آمال كل المؤمنين برسالة المعهد معلقة على المدير الجديد للمنظمة لدفع مسيرة المعهد إلى الأمام بعد تعثرها طويلا، وأولى المهام فى هذا الصدد تعيين مدير متفرغ للمعهد تنطبق عليه الشروط الواردة فى الهيكل التنظيمى للمنظمة، حيث لا يوجد مدير حالياً للمعهد وإنما قائم بعمله لا يستطيع بحكم «مسئولياته الجسام» أن يعطيه سوى ساعات قليلة فى الأسبوع ناهيك بعدم انتمائه للسلك الجامعى أصلاً، وبعد هذه الخطوة سوف تتداعى الخطى تباعا من أجل الانطلاق نحو المستقبل الذى يليق برسالة المعهد.