الأهرام
جمال عبد الجواد
اللغة ليست وعاء للفكر
متزامنا مع اهتمام الدولة بإصلاح التعليم، استوقفتنى محادثة جرت مع عدد من الشباب صغار السن حول المسألة نفسها. انتقادات الشباب كثيرة، بعضها جدى لا يمكن تجاهله، وبعضها الآخر مجرد آراء غير ناضجة وغير مستغربة على الشباب فى هذه السن المبكرة. بعض هذه الآراء يعكس رأيا سائدا بين كثير من المصريين، وليس صغار السن من الطلاب فقط، ومن ذلك انتقادهم لتدريس مقررات دراسية لا يرون فيها فائدة. يتفاوت طول قائمة المواد الدراسية عديمة القيمة من طالب إلى آخر، غير أن اللغة العربية كانت حاضرة باستمرار ضمن هذه القائمة؛ ففى رأى الكثيرين فإنه يكفى للنشء تعلم القراءة والكتابة، وأن أى دراسة إضافية للغة العربية هى أمر زائد عن الحاجة لا طائل من ورائه.

المشاعر السلبية تجاه تعلم اللغة العربية لها ما يبررها بالنظر إلى التناقض بين طبيعة العصر الذى نعيشه، وبين ما يتم تدريسه للطلاب على أنه العربية؛ فأغلب القائمين على تدريس اللغة العربية فى بلادنا يفهمون اللغة باعتبارها وعاء للفكر، وأن تدريس اللغة العربية يجب أن ينصرف إلى تدقيق وتجميل هذا الوعاء لتهيئته لاستقبال الفكر عندما يكون حاضرا. ولكن ماذا عن الناس الذين لا ينتجون الفكر أو يستهلكونه، ولا يريدون توريط أنفسهم فى هذه الخطيئة المهلكة، والذين يمثلون الغالبية الساحقة من عموم الطلاب والمواطنين؟ لماذا يتم إجبار هؤلاء على إتقان فنون تجميل وعاء ليس لديهم ما يضعونه فيه؟ هؤلاء غير معنيين بالوعاء وأناقته، وإذا كان لهم من حاجة، فإنهم لا يبحثون عنها فى هذا الوعاء، وإنما فى كبسولات بلاستيكية شفافة تظهر ما بداخلها دون تجميل، أو فى قراطيس مصنوعة من ورق مستعمل رخيص، يتم التخلص منها فور استهلاك ما بداخلها، من تلك الأنواع التى يجدونها منشورة على السوشيال ميديا.

لاحظ أننا أصبحنا مجتمعا تخيم عليه التفاهة، ويعانى فقرا مدقعا فى الفكر، الأمر الذى يمكن ملاحظته فى عدد ما يكتبه المؤلفون عندنا من كتب بالقياس لما يتم إنتاجه منها فى بلاد أخرى. أحدث البيانات المتاحة عن عدد الكتب المطبوعة فى مصر ترجع لعام 2000، وتشير إلى أن ذلك العام شهد نشر أكثر قليلا من تسعة آلاف كتاب. فإذا افترضنا أن زيادة السكان وتراجع الأمية وارتفاع الوعى أدى إلى مضاعفة عدد الكتب المنشورة لتصل إلى 18 ألف كتاب، وهو تقدير شديد التفاؤل، فإن المطابع فى دول قريبة منا فى عدد السكان أنتجت من الكتب عددا أكبر بكثير، بلغ فى إيطاليا 62 ألفا، وفى تركيا 51 ألفا، وفى إيران 73 ألفا، وكوريا الجنوبية 48 ألفا، وألمانيا 93 ألفا، واليابان 139 ألفا، أما الولايات المتحدة والصين فإنهما تتنافسان فى بطولة تخصهما وحدهما، فالمطابع الأمريكية أنتجت هذا العام 304 آلاف كتاب، فيما طبعت المطابع فى الصين 440 ألفا منها.

وعاء اللغة عندنا خال، لا يجد من يملؤه، وسيبقى خاليا مادمنا واصلنا التعامل مع اللغة باعتبارها مجرد وعاء للفكر، وليس باعتبارها الفكر ذاته. تأمل نفسك وأنت تفكر فى أى شيء بسيط أو معقد، فستجد أنك لا تستطيع التفكير فيه إلا باستخدام مفردات اللغة تتداعى إلى العقل بما يناسب الفكرة، وما إن تتوقف المفردات عن التداعى إلا وتتوقف الفكرة عن النمو والتطور. قد تبقى منشغلا بالموضوع، وتظل نفس المفردات تلح عليك، ولكن هذا يخلق هما وانشغالا وليس فكرا، ويظل الأمر كذلك حتى ترد إلى ذهنك مفردات جديدة تشرح بعدا جديدا من أبعاد الفكرة، وهو ما يحدث عادة عندما تبدأ فى تسجيل الفكرة بالكتابة أو بغيرها من الوسائل.

الفكر المنفصل عن اللغة هو شيء غير موجود، فكيف لنا أن نعلم أن الفكرة موجودة مالم يتم التعبير عنها بمفردات اللغة؟ الأفكار العميقة لا يمكن التعبير عنها إلا بلغة راقية، فهل صادفت أبدا فكرا عميقا مكتوبا بلغة ركيكة؟ وهل من قبيل المصادفات أن كبار مفكرينا هم أيضا أفضل من استخدم لغتنا، ولنا مثل فى طه حسين والعقاد وزكى نجيب محمود.

أذكر وأنا فى بداية عملى بمركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام، أن قمت بتقليل وقع تأخرى فى تسليم البحث المطلوب فى موعده، مدعيا أن الأفكار واضحة فى ذهني، وأنه لم يبق سوى وضعها على الورق. رفض مدير المركز الأستاذ الكبير السيد يسين هذا العذر تماما، وسخر منه، واتخذ من ذلك مناسبة ليعلمنا درسا فى العلاقة بين الفكر واللغة، وكيف أن الفكرة غير المكتوبة هى فكرة غير موجودة.

التلاميذ فى مدارسنا يكتبون موضوعات التعبير، وليس موضوعات التفكير؛ على عكس ما نجده فى دروس اللغة الإنجليزية. المدرس النبيه عندنا ينصح تلاميذه بأن يشمل موضوع التعبير آية قرآنية، وحديثا شريفا، وبيتا من الشعر، وقولا مأثورا، لكنه لا يدربهم على عادات التفكير السليم القائم على الملاحظة والتعميم والاستنتاج. أذكر أننى شعرت بالغيرة من زميل لى لأن مدرس اللغة العربية عندهم يقوم بتحفيظهم أقوالا مأثورة أكثر بكثير من تلك التى يلقنها لنا مدرسنا، وكم انبهرت عندما سمعته يقرأ فى الإذاعة المدرسية، أجسام البغال وأحلام العصافير، رغم أن سياق الحديث لم يكن يحتمل لا بغالا ولا عصافير، ولا أى نوع آخر من الحيوانات.

تعلم اللغة هو تعلم التفكير، ولكن لأن المسئولين عن تعليم العربية يتمسكون بنظرية اللغة الوعاء، فإنهم يهدرون فرصة تطوير قدرات أبنائنا الطلاب على التفكير، ويسهمون بذلك فى تعميق فقر الفكر الذى أصابنا، الأمر الذى برر للطلاب وعموم الناس النظر لتعلم اللغة العربية باعتباره أمرا زائدا عن الحاجة.

علينا - ونحن نجتهد لتطوير التعليم - ألا ننسى تطوير تعليم اللغة العربية، ففى الطريقة التى نتعلم بها اللغة العربية يكمن سبب الكثير من الجمود المخيم على حياتنا الثقافية والفكرية، وعبر إصلاحه يمكننا تحرير عقل الجيل الجديد، وإطلاق طاقاته المبدعة إلى آفاق لم نصلها من قبل.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف