جابر عصفور
رؤى نقدية ذكرى نصر أبو زيد
عندما نتأمل قضية نصر أبو زيد ونهايتها المأساوية، سوف نلاحظ على الفور أن هذه النهاية كانت نتيجة واستمرارًا لعدد من العوامل التى يمكن تفكيكها والنظر إليها باعتبارها عناصر تكوينية من بنية كلية. وأول هذه العناصر يتصل بالسياسات التى انتهجتها الدولة فى زمن السادات، والتى أدت إلى تحالفه مع جماعات الإسلام السياسى، للقضاء على نفوذ الجماعات الناصرية، وما يقترن بها من تيارات يسارية أو قومية أو اشتراكية. وكان نجاح السادات فى التحالف مع جماعات الإسلام السياسى ابتداء من اتفاقه مع عمر التلمسانى، مرشد الإخوان المسلمين سنة 1972، البداية التى ترتب عليها تغيير الدستور المصرى سنة 1971، وإضافة المادة التى تنص على أن: «مبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع». وللأسف وضعت هذه المادة فى الجلسة نفسها التى عدَّل فيها الموالون للسادات وأنصاره من ممثلى الجماعات الإسلامية، المادة الخاصة بمدة الحكم، والتى ألغت بتعديلها تقييد انتخاب رئيس الجمهورية بمدتين فقط وجعلته مفتوحًا غير محدد بأى مدة زمنية. وذلك بناء على اقتراح تقدم به بعض الأعضاء، وكانت النتيجة بالطبع هى غلبة تيارات الإسلام السياسى على ما عداها، ومن ثم تزايد نفوذ جماعات الإسلام السياسى إلى الدرجة التى أتاحت لها اختراق المنظمات التضامنية للمجتمع المصرى من ناحية، واختراق القضاء والجامعات المصرية من ناحية موازية. وكانت النتيجة هى هيمنة هذه الجماعات التى اتسع نفوذها وعلا صوتها على كل صوت فى المجتمع المصرى. وهو الأمر الذى انعكس بدوره على ثقافة المجتمع، وأحالها من ثقافة تحرر وطنى وقومى إلى ثقافة ذات طابع سلفى مُتريف، اتباعى وبطريركى، أكثر ميلًا إلى التقليد والرجعية، وهو الأمر الذى أشاع ثقافة تديين للجماهير المصرية، أعنى ثقافة تختلف عن ثقافة التحرر الوطنى بما فيها من انفتاح ورغبة جماهيرية فى التغيير والتجديد إلى ثقافة سلفية ذات نزوع وهابى يتناسب وأفكار الحلفاء الجدد على المستوى العربى والعالمى فى الوقت نفسه.
..........................
وفى هذا المناخ تم اغتيال الرموز المعارضة لكل هذه التحولات الجذرية سواء من المثقفين (مثل فرج فودة) فى مصر وأقرانه على امتداد العالم العربى، وكانت النتيجة هى فتح أبواب الجامعة لنفوذ هذه التيارات وغلبة أفكارها على التقاليد الأكاديمية التى تعتمد على حرية التفكير والتعبير، وهى تقاليد متوارثة من جيل طه حسين الذى صدم المجتمع المصرى بأفكاره عن الشك والمراجعة الجذرية للتراث العربى (أدبيًّا ودينيًّا)، لكنه فى آخر الأمر أرسى تقاليد جامعية ما لبثت أن تغلغلت فى وعى لجان الترقيات، وجعلت الأساس فى الترقية الجامعية، هو الإنجاز المنهجى بعيدًا عن موافقة أعضاء اللجنة على نتائج هذا الإنجاز أو عدم موافقتها. وقد تأسس مبدأ حق الاختلاف، كما تأسس مبدأ أن اللاحق يبدأ من حيث انتهى السابق ويضيف إليه بما يؤكد حضوره الجديد، وذلك على نحو يجعل من تقدم العلوم الإنسانية فى الجامعة قائمًا على الحرية الكاملة للبحث العلمى، وعلى تقاليد الاختلاف التى يضيف بها اللاحق إلى السابق بما يحقق منهجيًّا- نوعًا من الانقطاع المعرفى الذى هو قرين التقدم فى البحث العلمى، ومن ثم عدم تكرار اللاحق لأفكار السابق. وهو وضع يتحول فى الدراسات الإسلامية إلى نوع من التجديد الجذرى الذى دعا إليه الإسلام نفسه اعتمادًا على قول الرسول(صلى الله عليه وسلم): « إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها». وبدل هذا النهج الذى يعتمد على حق الاختلاف أو الإضافة الكيفية، ساد منهج جامد يعتمد على تقليد اللاحق لكتابات السابق وعدم الخروج على أفكاره بحيث أصبحت السلامة المنهجية وحتى التميز المنهجى مقترنًا بمضى السابق فى طريق اللاحق دون إضافة كمية أو كيفية. وهكذا لم تعجب أفكار نصر حامد أبو زيد الفاحص الأول لها، وكان الدكتور شوقى ضيف - عليه رحمة الله. ولكن الدكتور شوقى ضيف لم يُرد أن يضع نفسه موضع الرافض لترقية أستاذ ينتسب إلى قسمه، فأراد التخلص من هذا العبء، فلم يجد أكثر تحقيقًا للغرض من الدكتور عبد الصبور شاهين - رحمه الله - وكان عبد الصبور شاهين سلفيّ الهوى، عضوًا متنفذًا فى الحزب الوطنى، كما كان خطيبًا مُعتمدًا لمسجد عمرو بن العاص، يخطب فى الناس خطبة الجمعة، ويزرع فيهم آراءه وأفكاره، وهى آراء وأفكار لم تكن بعيدة عن لجنة الوساطة بين المجموعات الإرهابية من التأسلم السياسى والدولة. وكانت هذه الوساطة تتم تحت إشراف اللواء محمد عبد الحليم موسى، وزير الداخلية فى ذاك الوقت، وقد دافع عبد الصبور شاهين عن أفكار الإرهابيين، وصرح أمام وزير الداخلية بأنه لا يخشى من إرهاب الشباب المتدين بقدر ما يخشى من إرهاب الدكتور نصر أبو زيد وروجيه جارودى (حسب ما نشر بجريدة «الفجر» فى مذكرات عادل حمودة، فى 12/7/ 2018). وكانت النتيجة معروفة بعد أن قرر الدكتور شوقى ضيف الانسحاب من ترقية نصر أبو زيد، وترك مكانه فى الفحص إلى الدكتور عبد الصبور شاهين، وكانت اللجنة مكونة من ثلاثة أعضاء، أقر اثنان منهما باستحقاق نصر أبو زيد للترقية، أما عبد الصبور شاهين، فلم يكتب تقريرًا للترقية أو حتى لنقد الترقية أو رفضها على أسس علمية، وإنما كتب تقريرًا تكفيريًّا، لا علاقة له بالبحث العلمى. وعندما اجتمعت اللجنة، رفضت تقرير العضوين اللذين أقرا الترقية، وقبلت تقرير عبد الصبور شاهين الذى لم يكن سوى تكفير وتشويه للسمعة، وبدا كما لو كان انتقامًا من نصر أبو زيد الذى هاجم شركات توظيف الأموال الإسلامية، وهى الشركات التى كان عبد الصبور شاهين على علاقة وثيقة بها على أكثر من مستوى. فأهدر المبدأ الأساسى فى الترقية، وهو أخذ رأى عضو واحد فى اللجنة ورفض تقرير عضوين منهما، وذلك بتصويت أسهم فيه رئيس اللجنة بقبول تقرير عبد الصبور شاهين التكفيرى.
ولم يكتفِ عبد الصبور شاهين بذلك، فقد أضاف إليه، تكفير إنتاج نصر أبو زيد فى خطبه التى كان يلقيها كل يوم جمعة فى مسجد عمرو بن العاص، وكأنه كان يقوم بتشويه سمعة نصر أبو زيد عند الناس العاديين المتدنيين الذين لا يعرفون شيئًا عن البحث العلمى، أو تقاليد الحرية الجامعية التى ينبغى أن يقوم عليها. ولذلك نستطيع أن نقول إن البداية كانت من إحساس قُوى التأسلم السياسى، بأن أبحاث نصر أبو زيد تهديد لسطوتها السياسية بمعنى غير مباشر، ومن ثم كان ردها من خلال تقرير عبد الصبور شاهين حاسمًا وحادًّا كل الحدة، ومن ثم تكفيريًّا بكل معنى الكلمة. ولم تكتفِ هذه الجماعات بعدم ترقية نصر أبو زيد، فقد قامت من خلال أصابعها فى كلية دار العلوم التى ينتسب إليها عبد الصبور شاهين - بالهجوم على كتابات نصر أبو زيد، وكانت البداية هى التقرير التكفيرى الذى كتبه عميد الكلية محمد البلتاجى، دعمًا لتقرير عبد الصبور شاهين عندما استعان به رئيس الجامعة الدكتور مأمون محمد سلامة، بوصفه متخصصًا فى دراسات الشريعة والفقه، وهو الأمر الذى دعمه قيام الدكتور إسماعيل سالم، الذى كان يقوم بالخطابة فى أحد مساجد الهرم، معبرًا عن رأى السلفية المتحالفة مع الإخوان المسلمين. ولذلك كان من الطبيعى أن يفشل نصر أبو زيد فى نيل درجة الأستاذية، أو إنصاف الجامعة له من تعنت لجنة الترقيات التى كان يرأسها الدكتور شوقى ضيف - عليه رحمة الله.
وعندما تغيرت الأوضاع نتيجة تغير السياسة العامة للدولة فى زمن الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك، الذى فاض به الكيل من تسلط جماعات الإسلام السياسى على الدولة، فأقال الوزير محمد عبد الحليم موسى، وزير الداخلية، صاحب مبادرة تصالح الدولة مع الجماعات الإرهابية، ومعه بالطبع كل أنصار هذه المبادرة والمتعاطفين معها. وترتب على هذا الأمر انفساح المجال مرة ثانية أمام نصر أبو زيد للتقدم إلى الترقية مع المتغيرات الجديدة للأوضاع السياسية التى ترتب عليها تحولات علمية جامعية وتحولات ثقافية على السواء. فتشكلت لجنة جديدة لترقية نصر أبو زيد بعد إضافته أبحاثًا جديدة. وكانت اللجنة مكونة من: الدكتور محمود على مكى، والدكتور مصطفى مندور، والدكتور مصطفى الصاوى الجوينى، والتى انتهت إلى الإشادة بأعماله وترقيته بجدارة، ولم يكن فى اللجنة عبد الصبور شاهين ولا من يشايعونه. لكن الترقية كانت فى حد ذاتها بمثابة تحد لسلطة جماعات الإسلام السياسى التى لم تقبل هذا التحدى، فردت عليه بما هو أقسى، فحولت القضية إلى قضية رأى عام على مستوى البسطاء من الشارع المصرى الذين أقنعتهم هذه الجماعات بكفر نصر أبو زيد بواسطة خطبائها فى المساجد. كما لجأ ممثلوها إلى طبع كتب فى تكفير نصر أبو زيد، فعل ذلك أولًا إسماعيل سالم، الأستاذ المساعد للفقه بكلية دار العلوم، والذى وزع كتيبه «نقض مطاعن نصر أبو زيد فى القرآن والسنة والصحابة وأئمة المسلمين» الذى فرغ من كتابته فى الخامس والعشرين من أبريل (1993)، والذى صدر عن دار التوزيع والنشر الإسلامية، ووزع مجانا على طلاب الجامعة بوجه عام، وطلاب قسم اللغة العربية بوجه خاص، تحقيقًا لأحد أهداف الكتيب الذى أكد «أنه على جميع طلاب نصر أبو زيد أن يمتثلوا لأمر الله، فلا يجالسوه للعلم، أو التلقى على يديه». وكان ثانى هذه الكتب، كتاب عبد الصبور شاهين الذى أصدره بعنوان «قصة أبو زيد وأنصار العلمانية فى جامعة القاهرة»، الذى صدر عن دار الاعتصام فى العام اللاحق (1994) حاملًا تقارير لكل من البلتاجى والشكعة ومزروعة وحواس وغيرهم من التقارير التى تؤيد تقرير شاهين، وثالث هذه المحاولات ما كتبه محمد جلال كشك من سلسلة مقالات، ورابع هذه المحاولات كتابات فهمى هويدى، والقائمة طويلة، تتضمن خطب أئمة مساجد تنتسب إلى السلفية الوهابية، ومقالات سلفية الهوية لمشايخ أزهريين فى مساجد موزعة على امتداد مصر، وذلك لخلق رأى عام شعبى، يميل إلى تكفير نصر أبو زيد، وتصديق ما قاله أتباع ابن تيمية المحدثين زورًا وبهتانًا، باسم دين ينهى عن التكفير، ويبيح الإثابة على الاجتهاد حتى لو أخطأ المجتهد، ويقول على لسان الإمام مالك: «إذا ورد قول عن قائل يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجهًا، ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حمل على الإيمان ولم يحمل على الكفر».
ولم تكتفِ جماعات الإسلام السياسى بذلك، فقد تكونت لجنة من المستشار محمد صميدة، نائب رئيس مجلس الدولة الأسبق بالمبادرة برفع دعوى حسبة للتفرقة بين نصر أبو زيد وزوجه المسلمة، وانضم إليه فى الدعوى عدد من رموز تيارات الإسلام السياسى، وانضمت إلى هؤلاء جريدة «عقيدتى». وقد استغلت هذه المجموعة ثغرة فى قانون الأحوال المدنية، فرفعت دعوى تفريق بين نصر وزوجه، وبالطبع حاول الفريق المضاد، وهو الفريق الذى كان أكبر عددًا وأكثر تأثيرًا فى أجهزة الإعلام، الدفاع عن نصر أبو زيد. وقد بدأ هذا الفريق من جريدة «الأهرام» التى كانت ولا تزال- نصيرًا لحرية الفكر، وضم هذا الفريق مجلات مثل: «القاهرة» التى كان يرأس تحريرها المرحوم غالى شكرى، و»روز اليوسف» التى كان يرأس تحريرها عادل حمودة، و»الأخبار» التى كتب فيها عدد من كُتّاب الاستنارة. وتطول القائمة التى تفوق الحصر، ولكن كان كل المدافعين عن نصر هم من المثقفين الذين لم يكن لهم تأثير مباشر أو على جماهير الناس البسطاء الذين كان التأثير الأكبر عليهم ربما إلى اليوم- من جماعات التأسلم السياسى، وعلى رأسها جماعات الإخوان المسلمين والجماعات السلفية وجماعات الجهاد والتكفير والهجرة والجماعة الإسلامية وغيرها من الجماعات التى أصبحت نواة للإرهاب الدينى التى لا تزال قائمة إلى اليوم، مستورة فى داخل مصر ومعلنة خارجها، خصوصًا فى قطر وليبيا وسوريا والعراق.
وجاء الحكم الأول فى القضية المرفوعة على نصر من السلفيين بالرفض فى المرحلة الأولى، لكن سرعان ما جاء الحكم بالقبول فى مرحلة الاستئناف، وهو الأمر الذى تكرر فى حكم القاضى السلفى فى مرحلة النقض، وهو الحكم الذى نزل كالصاعقة على رءوس الجميع، خصوصًا تيارات المجتمع المدنى التى نجحت تيارات التأسلم السياسى فى إقناع الجماهير المؤدلجة دينيًّا بأنها تيارات لا تختلف فى الفكر عن نصر حامد أبو زيد. وكان واضحا من حُكم النقض هو ضعف التيار المدنى الديمقراطى بالقياس إلى جماعات التأسلم السياسى التى استطاعت أن تخترق الأجهزة الأيديولوـية المؤثرة فى الدولة، خصوصًا القضاء الذى استغلته لمصلحتها، سواء فى حالة نصر أبو زيد أو فى حالات مشابهة. وكانت هزيمة القوى المدنية فى هذه المعركة مقترنة باضطرار نصر أبو زيد إلى السفر إلى المنفى الاختيارى مع زوجه، والاستقرار أخيرًا فى جامعة «لايدن». وعاش عاملًا فيها إلى أن توفاه الله.
وإذا عدنا إلى المشهد المصرى بعد أن اكتملت بنية اللوحة، وظهرت العلاقات المتجاوبة ومكوناتها التأسيسية، أمكن لنا أن نستخلص منها ما ينفعنا فى يومنا هذا، وهو:
أولًا: إن الموقف السياسى ومن ثم الاقتصادى والاجتماعى والثقافى، للدولة، هو العامل الحاسم فى الأمر كله، فإما أن تكون الدولة مدنية ديموقراطية حديثة، أو تكون دولة مستبدة، لا مفر أمامها من التحالف مع جماعات التأسلم السياسى، وعلى رأسها الحليفان الأساسيان؛ الإخوان المسلمين والجماعات السلفية.
ثانيًا: إن الدولة عندما تحدد هويتها السياسية، فإنها إنما تحدد هويتها على المستويات المصاحبة، فينص دستورها على حرية الفكر والإبداع، وذلك فى سياق لا ينفصل عن إشاعة مناخ من الحريات والتنوع الخلاق الذى يشجع على الاجتهاد دون خوف، والإبداع دون وَجل. وعلى رفض العقوبات السالبة فى قضايا حرية الفكر والإبداع.
ثالثًا: يترتب على ذلك أن حرية المجتمع التى تتيحها الدولة فى مجالات الفكر بوجه عام تنعكس بالضرورة على الجامعات التى لابد أن تسمح بدورها بحق الاختلاف، ومن ثم التحول من منطق الاتباع فى لجان الترقيات إلى روح الإبداع الذى يضيف إلى القديم جديدًا يسهم فى تطوير البحث فى العلوم الإنسانية والطبيعية، وذلك دون ذعر من خروج اللاحق على السابق.
رابعًا: كما يترتب على ذلك تخلص القضاء من العناصر التى اخترقته، ومعه المؤسسات التضامنية كالنقابات وما فى حكمها التى لم تنجُ من اختراق جماعات التأسلم السياسى، ومن ثم إرجاعها إلى مسارها الديموقراطى، بوصفها مؤسسات تضامنية ذات صبغة مدنية، لا تخضع لتديين المجتمع أو عسكرته بأى حال من الأحوال.
خامسًا: مراجعة المجالس النيابية وما فى حكمها من مجالس محلية بما يؤسس ويؤصل لكل ما يخلِّصها من نزعات دينية متطرفة أو نزعات انتهازية تغلب المصالح الفردية، أو تُعْلِى من تعصب المذهبية الدينية أو الأهواء السياسية على الحقائق الموضوعية المقترنة بالعدالة والنزاهة فى المواقف والقرارات.
سادسًا: تحرير الجامعات مما انتشر فيها من نزعات سلفية تُغلِّب التقليد على التجديد، وتؤثر الاتباع على الابتداع. ولن يتم ذلك إلا بتأكيد حرية البحث العلمى من ناحية، وتأسيس التنوع المنهجى، ومن ثم الحريات البحثية الكاملة، وهو الأمر الذى يقتضى مراجعة لجان الترقيات وما يرتبط بها أو يلزم عنها فى الجامعة، والتأكد من نزاهة أفرادها، وعدم انحياز أعضائها إلى هذا التيار السياسى المتعصب وذاك التيار الدينى المتشدد.
سابعًا: الارتفاع بدرجة الوعى الثقافى الشعبى بما يقاوم عمليات التديين المجتمعى، أو نزعات ترييف المدينة، ويصفِّى عقول أبناء الشعب المصرى من الخرافات والخزعبلات ومن سيطرة الفكر السلفى الوهابى التى تجعل من المتأثرين بالأفكار السلفية والوهابية جندًا ومددًا لجماعات الإرهاب السياسى التى بدأت من الإخوان المسلمين والسلفية ولم تتوقف عند القاعدة أو جماعات داعش الإرهابية.
ثامنًا: إشاعة الوعى بالمبادئ والقيم التى تقيم الحكم على حرية المواطنين وتحقيق العدل الاجتماعى فى الدولة المدنية الديموقراطية الحديثة، وذلك بما يؤكد مبادئ المواطنة، ويجرم كل التجريم أنواع التمييز وأشكال التعصب الدينى أو الاجتماعى أو غير ذلك من الأشكال التى تهدد سلامة المجتمع وأمنه على كل المستويات.
وأخيرًا، فإن هذه الدلالات هى بمثابة أضواء حمراء تنبهنا إلى ما اقترن بمأساة نصر أبو زيد من أنواع خلل سياسى واجتماعى وجامعى وثقافى وقضائى، أدت فى النهاية إلى تصاعد نفوذ جماعات التأسلم التى لا تزال راسخة الجذور تعمل على نحو مضاد لكل عمليات التنمية فى المجتمع، ولكل محاولات الانفتاح على العالم وتوسيع دوائر الاستثمار، فضلًا عن محاولات تطوير التعليم والثقافة ووعى الشباب وإشاعة ثقافة جماهيرية تؤمن بالعقل وعلمانية الدولة على السواء، فتضع الأشياء والأفكار موضع المساءلة بدل الاندفاع وراء التقليد والاتِّباع. وبالطبع لن يكتمل ذلك كله دون تجديد الخطاب الدينى على نحو جذرى، يحرر الوعى المصرى من جمود الفقهاء وتزمتهم واستبدالهم الذى هو أدنى بالذى هو خير.
ومن المؤكد أننى لستُ فى حاجة إلى تأكيد أهمية المبادئ التى دفع المجتمع المصرى ثمنًا باهظًا لإهماله إياها أو التساهل فيها طوال زمن الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك الذى تبع للأسف سياسة سلفه الرئيس المؤمن محمد أنور السادات. واستمرت الدولة فى طريقها المحتوم الذى أدى إلى ثورتى 25 يناير و30 يونيو. ولذلك يبقى السؤال: هل نتعلم الدرس من نتائج كارثة نصر أبو زيد المأساوية، أم أننا سنظل نكرر الأخطاء نفسها على كل المستويات السياسية والتعليمية والقضائية والثقافية؟!