الأهرام
عزت السعدنى
حوار مع أول رئيس حكومة فى العالم كله!
جلست وتكلمت وحاورت أقدم سياسى عرفه التاريخ الإنسانى كله.. سياسى عمره من عمر الزمن.. هل عرفتموه؟ إنه الإنسان المصرى نفسه.. والذى أقام اول حكومة فى العالم قبل أربعين قرنا من الزمان ويزيد.. برئاسة موحد القطرين الذى اسمه مينا نارمر!.

فإذا كان المصرى أول من عبد الله من بنى البشر.. وأول من قال : أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له.. على لسان اخناتون العظيم. وإذا كان المصرى هو أول من علم الدنيا كيف تمسك بالقلم؟.. وكيف تقرأ وكيف تحسب وتجمع وتطرح؟ وكيف تبنى وتعلى فى البنيان؟ وكيف تداوى الجراح وتغسل الآلم والشجن والهم الدفين؟ وكيف تحكم بالعدل بين الناس.. وكيف تضع القوانين التى تساوى بين الحاكم والمحكوم؟.وكيف يتكلم الحق فى حضورها ويسكت الباطل..؟ وكيف تجمل الحياة وتلونها وتطير بها حباً وعشقاً وأدباً وجمالاً وفضيلة..؟

وإذا كان الإنسان المصرى هو الفاتح الأعظم والمحارب لكل العصور وصانع النصر ورافع علم مصر خفاقا فوق الجبال الشوامخ.. من أيام تحتمس الثالث أعظم الفاتحين فى التاريخ.. وحتى ابراهيم باشا الذى وصل بجنوده المصريين إلى قلب أوروبا..

فإن هذا المصرى المعلم والهادى والمشرع والمربى والفاتح والصانع والفنان.. هو أول من اشتغل بالسياسة يوم أن أقام أول حكومة منظمة وأول دولة عريقة فى التاريخ المكتوب كله.. وهى التى أعلنها مينا نارمر عام 2150 قبل الميلاد .. وقبل أن يخرج الإنسان الأوروبى الذى يتكبر الآن ويتجبر ويتبجح خيلاء بما وصل إليه.. من الكهوف التى كان يعيش فيها فوق الجبال وداخل الوديان والغابات بقرون طويلة!

ياله من مشوار ضارب فى أعماق الزمن بين دولة الملك مينا نارمر ودولة الدكتور مصطفى مدبولى مشوار طوله 50 قرنا من الزمان بالتمام والكمال، وهو عمر العمل السياسى فى مصر.. وهو دون تردد يجعل الإنسان المصرى أقدم وأعرق سياسى عرفه التاريخ!.. ومن عنده كلام آخر.. فليتفضل..

ولكى أعرف كيف كان نهر النيل يجرى بالحق والعدل مع كل رشفة ماء تدخل فم كل مصري؟..

ولكى أعرف كيف كان يعيش المصرى حاكماً أو محكوماً.. فرعوناً كان يملك الرقاب والعباد.. أو فلاحاً متعباً مهدوداً ليس له من الدنيا إلا عافيته وقطعة من طين الأرض يزرعها حباً وحباً وضحكاً وشبعاً؟..

ولكى أعرف كيف كان الوزراء يحكمون بين الناس إن خيراً أم شراً.. إن عدلاً أم ظلماً؟..

جمعت أقدم رئيس حكومة فى العالم مينا نارمر.. وأعظم الفاتحين الذين عرفهم التاريخ تحتمس الثالث الفاتح الأعظم.. وأخر جيل الحكام العمالقة الذى إسمه الملك رمسيس الثالث.. مع جميع الوزراء والحكام الذين كانوا يحكمون مصر فى كل مدينة وكل إقليم..

<><

لن أقول أين قابلتهم؟ لأنهم ـ أى الملوك والوزراء والحكام ـ أرادوا ألا يعرف مكانهم أحد حتى لا يتجمع من حولهم الصحفيون والمذيعون وحتى لا ترهقهم اسئلتهم اللحوحة وكاميراتهم وأنوارهم التى تغشى العيون.. وهم لم يعودوا يقدرون بعد هذا العمر والزحام والضجيج وتلوث الجو والأخلاق والضمائر!

سألت أول رئيس حكومة فى العالم: يامولانا الملك مينا أنت موحد القطرين ومكون أول حكومة عرفها التاريخ.. هل كان لديك وزراء بعدد وزارة الدكتور مصطفى مدبولي؟

قال: لا بالطبع.. انتم الآن ـ كما قلت أنت ـ نحو 100 مليون انسان وعلى ايامى كان كل البشر فى مصر لايتجاوزون المليونين أو الثلاثة .. لقد كان عندى وزير واحد كلفته بأمور الخلق وأوصيته بما قال لنا الإله: »لقد خلقت الرياح الأربع حتى يستطيع كل إنسان أن يتنفس مثل أخيه والمياه العذبة حتى يستطيع الفقير أن يشرب منها ويروى حقله وزرعه كما يفعل سيده.. لقد خلقت كل إنسان مثل أخيه تماماً.. ولقد حرمت أن يظلم الناس بعضهم بعضاً، لكن قلوبهم نقضت ما أمرت به وما شرعت»..

قلت: هل حقا كما يقال إن الفرعون كان طاغية لا أحد يقف فى طريقه؟

قال: أنت تعرف أن الملك كانوا ينظرون إليه باعتباره ليس إنساناً كسائر البشر.. بل هو أقرب إلى الإله منه إلى البشر!

قلت: كما قال الحق عز وجل فى كتابه العزيز «وقال فرعون يأيها الملأ ماعلمت لكم من إله غيري»..

يقاطعنى بقوله: ولكن ليس معنى هذا أن يطغى فى الأرض ويظلم الناس.. بل على العكس ان يتحلى بصفات الإله وأولها العدل ونشر راية الحق بين البشر.. فالإله عادة لايخطئ ولا يفرق بين الناس..

قلت: ما قولك فيما قالته التوراة فى سفر الخروج: »ثم قام ملك جديد على مصر لم يكن يعرف يوسف فقال لشعبه هو ذا بنو إسرائيل شعب اكثر وأعظم منا هلم نحتال لهم لئلا ينموا فيكون إذا حدثت حرب أنهم ينضمون إلى أعدائنا ويحاربوننا ويصعدون من الأرض. فجعلوا عليهم رؤساء تسخير لكى يذلوهم بأثقالهم فبنوا لفرعون مدينتى مخازن فيثوم ورعمسيس. ولكن بحسبما أذلوهم هكذا نموا وامتدوا.

فإختشوا من بنى إسرائيل واستعبد المصريون بنى إسرائيل بعنف ومروا حياتهم بعبودية قاسية فى الطين واللبن وفى كل عمل فى الحقل كل عملهم الذى عملوه بواسطتهم عنقاً».

يرد أول رئيس حكومة فى التاريخ: نحن شعب لا يظلم أحداً.. فليس فى قاموس حياته كلمة اسمها الظلم!

قلت: سأنقل لك ما قاله الدكتور محمود سلام زنانى أستاذ تاريخ وفلسفة القانون فى جامعة اسيوط حول ما جاء فى التوراة.. قال: » إن ما جاء فى هذه الآية وإن دل على كيفية معاملة فرعون لبنى إسرائيل فى مصر . فإنه لا يفيد شيئاً عن معاملته للمصريين. فبنوا إسرائيل فى مصر أيامها كانوا يشكلون مجرد أفراد جالية اجنبية، ولعل هذا الملك قد خشى من تكاثرهم، أو استشعر الخطر من علاقاتهم بدول أخري، فعمد إلى وضع القيود الثقيلة عليهم وعلى أية حال فإن ما جاء فى العهد القديم بخصوص مصر، ينبغى أن يؤخذ بحذر شديد حيث إنه قد دون فى عصر لاحق وفى ذلك يقول الألمانيان، أرمان ورانكه: على أن ما يرويه لنا كتاب العهد القديم عن الأحوال المصرية لا يمكن للمرء أن ينظر إليه إلا بالشك وعدم التصديق فرواياته ليست إلا أساطير سجلت زمنا متأخرا نسبياً ودخلها كثير من التعديل والصقل والتزويق..

واستعمال هذه الأساطير الإسرائيلية لمعرفة مصر القديمة يكون على أقل تقدير غريباً ومبالغاً فيه كما لو استشهدنا بأساطير الشهداء فى القرون الوسطى لمعرفة روما فى العصر الأول للقياصرة.

قال أول رئيس حكومة فى العالم: هذا صحيح تماما..

قلت: ولكن الله تعالى مخاطباً سيدنا موسى عليه السلام قال فى كتابه العزيز «اذهب إلى فرعون إنه طغي»..

يرد الملك رمسيس الثالث آخر الفاتحين العظام: إن المقصود بهذه الآية الكريمة هو جدنا فرعون موسى وحده.. ولكن أن يكون هناك ملك طاغية ليس هذا معناه إن كل ملوك مصر كانوا كذلك.. بل لعل العكس هو الصحيح وهو أن النظم التى سادت فى مصر القديمة كانت تستهدف العدل وإقرار المساواة بين الناس، وإن نظام الحكم الذى كان متبعاً بها كان أبعد مايكون عن الطغيان والاستبداد، بل لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن حقوق الإنسان لم تحترم لدى امة من أمم العالم القديم مثلما احترمت فى مصر الفرعونية.

اسأل: كيف كان ذلك.. وماهى علاماته.. والذى نعرفه كلنا وكما قرأت فى كتاب حقوق الإنسان فى مصر الفرعونية للدكتور محمود سلام زناتى «إن الملك هو الرئيس الأعلى للدولة وهو بصفته هذه يعلن الحرب ويعقد المعاهدات مع الدول الأجنبية. وهو الذى يرسل إليها الرسل ويستقبل منها الوفود.. والملك هو الرئيس الإدارى الأعلى وبصفته هذه يعين كبار الموظفين وفى مقدمتهم الوزير، وهو الذى يراقبهم فيكافئ المحسن ويجازى المسىء .. فهو الذى يرقيهم أو يؤدبهم أو عند الاقتضاء يعزلهم.. والملك هو صاحب السلطة التشريعية.. فله وحده الحق فى إصدار القوانين واللوائح.. قد يفوض الملك، فى بعض الأحيان وزيره فى ممارسة هذه السلطة، لكن الوزير يمارسها عندئذ باسم الملك وتحت إشرافه..

والملك هو القاضى الأعلى فى البلاد، فهو ينبوع العدل ومرجعه الأخير، ومع ذلك قلما كان الملك يباشر بنفسه نظر الدعاوى والفصل فيها، فقد كان الوزير هو بالفعل كبير القضاة، ومحكمته كانت المحكمة العليا فى البلاد.

تلك هى اختصاصات الفرعون فى مصر القديمة، ومن الواضح أنها اختصاصات شاملة بحيث يمكن القول إن الفرعون كان محور السلطات جميعاً.

وقد يحملنا ما كان يتمتع به الفرعون من سلطات ضخمة على الظن بأنه كان يستطيع أن يفعل ما يحلو له، شأنه شأن الحكام فى الأنظمة الديكتاتورية أو الشمولية.

الرد هذه المرة ولكن بغضب للفاتح الأعظم الملك تحتمس الثالث.. قال ثائراً: لم يكن الفرعون ديكتاتورياً أبداً.. بل إنه رغم اتساع سلطاته لم يكن يحكم على هواه وحسب مايراه ولم يكن يسير شئون الدولة وفقاً لنزواته وأهوائه الشخصية.. لقد كانت هناك قيود تحد من حرية الملك نفسه!

اسأل إزاى؟

قال: أول قيد على سلطة الملك ينبع بالذات من صفته كإله.. فالآلهة فى المفهوم الدينى المصرى القديم أن يكونوا عادلين.. وإذا كان فرعون إلهاً وجب أن يكون عادلاً، فسياسة أمور الرعية بالعدل كانت من أهم الواجبات الملقاة على عاتق الفرعون.

ينظر إلى نظرة القائد الجندى من حرسه القديم قائلا: أتريد أن تعرف كيف كنا نحكم بالعدل والقسطاس عندما فوضت وزيرى رخماً رع بالوزارة عام 1458 قبل الميلاد؟

قلت له فى خطاب مفتوح قرأته أنا على الناس فى احتفال كبير موجهاً كلامى إليه على مسمع من الشعب.

> لا تنس أن تحكم بالعدل لأن التحيز والظلم عدوان على الآلهة.

> عامل من تعرفه معاملة من لا تعرفه، والمقرب من الملك كالبعيد عنه.

> أعلم انك سوف تصل الى تحقيق الغاية من منصبك إذا جعلت العدل رائدك فى عملك.. إن الناس ينتظرون العدل فى كل تصرفات الوزير.. وهى سنة العدل المعروفة منذ أيام حكم الإله فى الأرض.

> عندما يأتى إليك شاك من الوجه القبلى أو الوجه البحرى أو من أى بقعة فى البلاد. عليك أن تطمئن إلى أن كل شىء يجرى وفق القانون وأن كل شىء قد تم حسب العرف الجارى فتعطى كل ذى حق حقه.

قلت: سأنقل لك ما قاله المؤرخ ديودور الصقلى عن حياتكم كملوك وأريد أن أسمع رأيك فى كلامه.

قال ماذا قال يا تري؟

قلت لقد قال: «إن ملوك مصر لا يعيشون على نمط الحكام المستبدين فى البلاد الأخرى فيعملون ما يشاءون تبعاً لأهوائهم غير خاضعين لرقابة ما فقد رسمت القوانين حدود تصرفاتهم، لا فى حياتهم العامة فحسب، بل فى حياتهم الخاصة وأسلوب معيشتهم اليومية كذلك..

ويقول: وإذا بدا عجيبا إن الملك لم يتمتع بالحرية المطلقة فى اختيار طعامه اليومي، فاشد عجباً من ذلك بكثير إنه لم يكن فى قدرته أن يقضى بعقوبة على أحد من الناس مدفوعاً بكيد له أو غيظ منه أو بأى دافع ظالم أخر، بل عليه أن يتصرف وفق ما تنص عليه القوانين فى كل حالة.

قال: هذا صحيح تماماً.. ولكن أكثر من ذلك فإن واجب العدل الذى يقع على عاتق الملك لم يكن مجرد واجب أخلاقى ، وإنما كان واجبا دينياً وسياسياً فى الوقت نفسه.. فرغم النظر الى الفرعون بوصفه إلهاً، فإن صعوده إلى السماء عند موته لم يكن فى الاعتقاد الدينى المصرى القديم يتم بصورة آلية وإنما كان مشروطاً بأن يكون قد أمضى على الأرض حياة فاضلة، قام خلالها بواجباته نحو الآلهة الكبرى ونحو البشر. ففى المفهوم الدينى المصرى القديم كان الملك شأنه شأن البشر يسألونه عن أفعاله يوم الحساب، وكان عليه أن يدافع عن تصرفاته أمام قضاة العالم الآخر، ولم يكن يسمح له بالصعود إلى السماء إلا بعد أن يقتنع القضاة بأنه فعلاً عاش حياة طيبة وأدى واجباته على النحو المطلوب وإذا ثبت على العكس أن حياته لم تكن فاضلة وإن افعاله كانت آثمة، كان مصيره جهنم.. والعياذ بالله..

والعياذ بالله هذه من عندى أنا!

<><

وما زلنا فى حوار مع أول رئيس وزراء فى العالم كله

---------------------------------------------------------------------------

احكم بالعدل بين الناس.. فالكل سواء أمامك.. وآس الباكين ولا تضطهد أرملة أو يتيماً..أو فقيرا ولاتحرم رجلا من ماله وأرضه وبيته

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف