مثل نيران المدفعية الثقيلة التى تهدف إلى تجهيز الميدان للعمليات العسكرية، شهد شهر يوليو العديد من الأعمال التصعيدية بين الولايات المتحدة وإيران مع اقتراب موعد سريان العقوبات الاقتصادية الأمريكية. يعلن مدير التخطيط السياسى فى الخارجية الأمريكية براين هوك أن هدف بلاده هو جعل صادرات إيران من النفط تساوى صفرا فيرد قائد الحرس الثورى الإيرانى محمد على جعفرى بأن مضيق هرمز إما أن يكون للجميع أو لا يكون لأحد، ثم يأتى استهداف جماعة الحوثى ناقلة نفط سعودية فى البحر الأحمر ليثير مخاوف فعلية على أمن السفن. يحذّر الرئيس الإيرانى نظيره الأمريكى من اللعب بذيل الأسد فينذره ترامب بعواقب لم تصب سوى قليل من الدول على مدى التاريخ. يتواصل التذمر الشعبى الإيرانى بعد التدهور شبه اليومى فى قيمة العملة الوطنية فيأتى وزير الخارجية الأمريكية ليصب الزيت على النار، مشيرا إلى تفشى الفساد فى إيران، وهذا الفساد يعتبره كثير من الإيرانيين من أهم أسباب الأزمة الاقتصادية. ووسط هذا كله يُصرٌح ترامب بأنه مستعد للقاء المسؤولين الإيرانيين إذا قبلوا ودون أى شروط مسبقة.
البحث فى تفسير منطقى للتحول فى سلوك ترامب وابتعاده مؤقتا عن اللعب بذيل الأسد أمر محفوف بالمخاطر لأنه يفترض رشادة سلوك الرئيس الأمريكى وهو افتراض غير صحيح. فهناك من يعتبر أن ترامب انتهز فرصة الأزمة الاقتصادية الطاحنة التى تضغط على النظام الإيرانى وتجعله مهيأ لتقديم تنازلات، أو أن ترامب توصل إلى صعوبة توجيه ضربة عسكرية موجعة للجمهورية الإسلامية فقرر أن يفاوضها، أو أن الرئيس الأمريكى أراد صرف النظر عن العاصفة الداخلية التى أثارها لقاؤه مع بوتين. كل تفسير من هذه التفسيرات يمكن تفنيده، ففى تقديرى أن تنفيذ التهديد الأمريكى وحتى الإسرائيلى بالحرب على ايران كان خيارا مستبعدا بحكم ارتفاع تكلفته وإن كان استهداف نفوذ إيران خارج حدودها يحدث ويتكرر، كما أن التفسير الاقتصادى لقرار ترامب يفترض أن تكون إيران هى البادئة بطلب الحوار وليس الجهة التى تعاقبها أى أمريكا، وأخيرا فإنه لم يُعرَف عن ترامب اهتمامه بردود الأفعال سواء الداخلية أو الخارجية على تصرفاته فهو يهين كبار الوزراء ويقيلهم عبر تويتر وهو ينقل سفارة بلاده للقدس متحديا إرادة العالم أجمع تقريبا. لا شئ منطقيا يمكن به تفسير قرارات ترامب.
لو نظرنا لنتائج الدعوة الأمريكية للحوار سنجد أنها قد تتيح للنظام الإيرانى أن يلتقط أنفاسه بعد سلسلة الاحتجاجات التى اجتاحت البلاد من أكثر من سبعة أشهر، فهنا يستطيع المحافظون أن ينسبوا إلى أنفسهم الفضل فى إبعاد أمريكا عن اللعب بذيل الأسد، لكن أيضا الإصلاحيون يمكنهم أن يفعلوا ذلك فلا ننسى أن روحانى هدد بدوره باستهداف حرية الملاحة عبر باب المندب، وقال قد تبدأ الولايات المتحدة الحرب لكن إيران هى التى ستنهيها. ومن جهة أخرى قد تتسبب الانفراجة المفاجئة فى العلاقات الأمريكية -الإيرانية فى تهدئة مخاوف المواطنين الإيرانيين العاديين من نقص العملة، وبالتالى تقلل من مضاربتهم على الدولار، مع العلم بأن هذا الأثر يتوقف على مصير دعوة الحوار. على الجانب الآخر لاشك أن دعوة ترامب تسببت فى إحراج كلٍِ من السعودية والإمارات، وهذا الإحراج يأتى تاليا على إعلان السعودية استعدادها لزيادة إنتاجها من النفط وموازنة تراجع الصادرات النفطية الإيرانية جراء العقوبات، وهو ليس الأول من نوعه على أية حال فلنتذكر مثلا التحول فى موقف ترامب من الأزمة مع قطر ، لكن هذه المرة بالتأكيد هى الأشد وقعا بحكم تعقيدات العلاقات بين السعودية والإمارات من جهة وإيران من جهة أخري.
هل يمكن أن يقوم فعلا حوار بين أمريكا وإيران؟ وهل من مصلحة العرب قيام هذا الحوار؟ مبدئيا لا يوجد شئ مستحيل فى عالم السياسة فالمصلحة تُجلس على طاولة التفاوض أشد الأعداء خصومة، والحالة التى نحن بصددها ليست استثناء لكن دونها عقبات كثيرة، فمن الصعب على المسؤولين فى إيران حتى لو تحمسوا للحوار أن يروجوا لاتفاق جديد مع أمريكا بعد تمزيق الاتفاق النووي، ولابد من خطوة أمريكية أولية تشجع هؤلاء المسؤولين على مواجهة خصومهم فى الداخل، أما اشتراط بومبيو تحسين حقوق الإنسان فى إيران قبل التفاوض فلن يقبل به أحد، ولماذا لم يشترط ذلك للحوار مع كوريا الشمالية مثلا؟ . كذلك هناك تساؤل عن دور الاتحاد الأوروبى، وهل سيدخل شريكا فى الحوار أم سيلتزم بما يتوصل إليه الطرفان بعد أن قاد قاطرة التفاوض على الاتفاق النووي؟، بالتأكيد لن يقنع الأوروبيون بموقف المتفرج. ثم إن من المفهوم أن إسرائيل ستحرص على أن يتناول الحوار كل ما يقلقها من إيران وبالأساس قدراتها الصاروخية ووجودها فى سوريا، وإعلان مثل هذه الأچندة من البداية كفيل بتعطيل الحوار. أما فيما يخصنا نحن العرب فالحوار الأمريكى (وكذلك العربي) مع إيران مهم، فبسبب شيطنة إيران يتم استنزاف الموارد الخليجية فى صفقات سلاح بمليارات الدولارات وتواصل إسرائيل تغيير الواقع على الأرض فى فلسطين، والحوار يساعد على تهذيب السلوك التوسعى الإيرانى ويفتح الباب لضغطها على حلفائها خصوصا فى اليمن.
هكذا أعطانا ترامب بدعوته للحوار مادة مثيرة نتناقش من حولها ونحلل دوافعها ونتائجها ونتفق ونختلف، وها نحن نفعل وإن كان واردا فى أى لحظة أن يتنكر ترامب لدعوته.