عمرو الزنط
فى جائزة «فيلدز» هذا العام
تعتبر جائزة «فيلدز» معادلة لنوبل فى مجال الرياضيات، الذى لم يأت فى وصية ألفريد نوبل ومن ثم ليس فيه جوائز على اسمه. تمنح الجائزة لمن حل معضلات رياضية كان يعُتقد أنها تكاد لا تحل، وبرهن ما عجز الكل عن إثباته، وفعل ذلك قبل أن يتجاوز سن الأربعين.
حصل هذا العام على الجائزة أربعة، بينهم إيرانى لجأ سياسيا لإنجلترا فصار أستاذا بجامعة كامبريدج.. وكان إنجازه الكبير يتضمن الربط بين معادلات جبرية وأشكال هندسية تبدو مختلفة فى الوهلة الاولى: فكما يتم ملاحظة أن خطوطا مستقيمة تتقاطع فى نقطة يمكن أن تتطابق إذا تم تدويرها بزاوية ملائمة حول نقطة الالتقاء، يمكن تطبيق مبادئ مشابهة لبرهنة أن عناصر هندسية شتى أكثر تعقيدا تنتمى لـ«عائلة» واحدة.. وهذه القدرة على التحليل والربط بين ما يبدو مختلفا فى أساس ما يفرق مجال مثل الرياضيات عن مجرد حل المعضلات فى لعبة ذهنية كالشطرنج مثلا: منهج الرياضيات يفسح المجال لبناء نظام منطقى مستمر فى الاتساع عن طريق الربط بين ما يبدو مختلفا.
وعندما تستخدم هذه القوة المنطقية الجبارة فى تنظيم وتفسير العالم المادى، فى مجال الفيزياء، ينتج عنها عنصر التوحيد أيضا- هذه المرة- لظواهر تبدو مختلفة للوهلة الاولى، كالمغناطيس والكهرباء والضوء مثلا.. والمنظومة المعرفية المتسعة باستمرار، التى يتم بناؤها هكذا، لها تداعيات على ما يمكن إنجازه تطبيقيا، ومن ثم ترتبط بنهوض الامم تكنولوجيا واقتصاديا. لكن هذا التسلسل ليس واضحا بالنسبة للكثيرين فى مصر، فالبعض يعتقد أنه يمكن القفز مباشرة للتطبيقات وكأنه كان من الممكن اختراع المصباح الكهربائى عن طريق المثابرة على الأبحاث التطبيقية على الشمعة!.
وهناك مشكلة كبرى أخرى، منعكسة فى قصة فذ آخر حصل على جائزة «فيلدز» هذا العام. وهو أستاذ بجامعة بون منذ أن كان عمره 24 سنة، وصار مديرا بمؤسسة ماكس بلانك للرياضيات وحصل على الجائزة الكبرى وعمره لم يتجاوز الثلاثين. ترى ماذا يحدث للباحث المصرى فى هذه السن، الذى يشكل عادة المرحلة الأكثر حيوية وعطاء للباحث فى الرياضيات والعلوم الأساسية؟. تجده تائها بين محاولة إعادة استيعاب ما فاته خلال حقبة تعليمية منقوصة، والتأرجح بين محاولة السفر والبحث عن سبيل مثمر فى مصر، ثم التردد فى اختيار موضوع البحث، أو حتى معرفة كيفية بداية البحث عن الموضوع (نتيجة الخلفية المعرفية المنقوصة).. حتى بعد الحصول على الدكتوراه (عادة بعد سن الثلاثين)، تجده مطحونا بين «الأساتذة الكبار»، كـ«مدرس» ليس له استقلالية أو قدرة على التحرك؛ محملا بأعباء فوق طاقته، ويخوض صراعات تفقده ما تبقى منها، حتى يصبح منهكا فلا يستطيع العطاء علميا أو حتى نقل المعرفة.. ليفعل مع الشباب ما فعله به «أساتذته».
هذا الوضع الخانق، المفلس السالب للطاقات، ليس مقتصرا على المجال العلمى الاكاديمى. بل فى جميع المجلات يسهم فى شل المجتمع بإقصاء وتدمير وتطفيش مواهب نحن فى أشد الحاجة إليها.