صالح ابراهيم
مكتبة الوقت بدلاً من الضائع
كما أصبح الأمر ظاهرة في المباريات الرياضية.. خاصة كرة القدم.. إحراز الأهداف وتغيير النتيجة أو الفوز بالمباراة في الوقت بدلاً من الضائع.. نموذجاً لمعجزة قد تحدث بين الذين يعيشون هذه الفترة من العمر بعد مشوار الحصاد.. وأداء المراد من لحظات البقاء علي الحياة.. خاصة للذين لم يقطعوا حتي الآن.. علاقتهم مع تخصص ووظيفة وواجبات ما قبل المعاش.. وأمامنا المئات بل الآلاف من نماذج لأشجار شامخة لم ينقطع ثمارها في حدائق تخصصها بدءاً من الذين اختاروا مهنة البحث عن المتاعب وليس انتهاء بالمهندسين والأطباء.. ناهيك عن المبدعين والمفكرين الذين يرتبط نبض دمائهم بمزيد من الإنتاج والإنجاز.
بالطبع أقصد وأرجو أن يقتصر مجال المعالجة والنقاش علي فكرة صائبة.. تضيف قيمة لعائد الحصاد العام.. علي المستوي الشخصي أو المستوي العائلي.. وحتي المستوي العام.. ويختص بها من حماهم الله سبحانه وتعالي من نزوات الشيخوخة وسلبيات الزهايمر.. أحاط عقولهم بسياج الشفافية وإنكار الذات وقلوبهم بالحب والود واعتماد رسالتهم في الوقت بدل الضائع شبيه بمعجزة الفوز وتغيير النتيجة وإسعاد أعداد متزايدة بضوء كاشف للأمل.. طارد للظلام.. وهو السياج الذي يتحقق ويتحدد بتقديم الخبرة تطوعاً وحصاد السنين كنزاً لمن يحتاج.. يطلب تحت مظلة تواصل الأجيال.. وربما يقتصر الأمر في إحدي مراحله علي إشارة غير مضيئة.. علي دائرة قد تبدو عادية أو بسيطة.. ولكنها مع العناية والرعاية ستصبح شجرة وارفة الثمار.
أتحدث عن حلم ظل داخل رحم الأجنة سنوات طويلة.. إلي أن حققته لي الابنة الوحيدة.. التي غرست لمستقبل حياتها.. فرعاً من نفس شجرة التخصص الذي كان الاختيار الحاسم.. والأمل المرجو لي.. وسط مصاعب صحية ومادية ومالية واجتماعية.. ومسئوليات متراكمة فوق الرأس.. في عمر كان من في عمري.. يمارسون الحياة الطبيعية.. بعناصرها اللعب والجد والمذاكرة والحلم ايضا.
إنه حلم مكتبة في المنزل.. قريبة من العقل واليد.. صادفها أثناء المشوار البلاتيني "75عاماً" ما صادف مكتبة بغداد العظيمة علي أيدي المغول ومكتبات عظيمة لمدن أخري.. ألقيت كتبها ومراجعها في النهر أو كان مصيرها الحريق عندما تزوجت في أوائل السبعينيات حرصت علي نقل غرفتي في بيت الأسرة.. سرير ودولاب.. ومكتبة ومكتب مليئ بالنقوش والزخارف اشتراها لي والدي رحمه الله من محام أغلق مكتبه للسفر.. احتلت الغرفة الأولي في شقة الزوجية.. التي نالها ما حدث بمباني الغرف الثلاث من تعديلات في الأثاث مع سنوات الرخاء وحتي تم التخلص من المكتب الضخم الذي رغب فيه صاحب المنزل والمكتبة بالطبع.. ليشتري لي مكتباً حديثاً مريحاً فاتح اللون.. بكرسي جلدي وضمن صفقة إضافة "نيش" المائدة.. وجلسة المعيشة يقوم المعلم منير بشبرا بتلبية رغبة ست المنزل.. مكتبة علي كامل الجدار.. ترتفع إلي ما قرب السقف.. بينهما فراغ يتحرك فيه كرسي المكتب.. وفرت الدفء والحفظ لمئات الكتب التي اخترتها من آلاف كانت متاحة في الستينيات وحتي نهاية القرن الماضي.. سلاسل وطبعات.. تنافست فيها وزارة الثقافة ودور النشر والصحف القومية.. طبعات شعبية لأعمال كاملة سلسلة الألف كتاب "روائع المسرح" تجبرني علي الشراء والانتقاء.. تجددت موجاتها بمكتبة الأسرة وما أسعدني به شباب المبدعين من نسخ من أعمالهم.. نجحوا في طباعتها وخروجها إلي النور.. وهو ما ضاعف سعادتي.. في ضوء الخوف من سلبيات النشر الإلكتروني علي الكتاب المطبوع.. وعدم نجاحي شخصياً في التعامل مع العالم الافتراضي وسماواته المفتوحة.
** المكتبة الجديدة لم تكن كافية لاستضافة جميع الكتب.. تناثرت ثم تكدست في كل مكان.. ودخلت إلي مواقع غير جديرة بالاستيعاب.. واضطررنا إلي نقل بعضها إلي شقة يسكنها جيران من الطلاب.. لضيق المكان وللأسف بعد أيام أو شهور.. تناثرت الكتب والمجلات القديمة والمتخصصة من أعلي إلي المنور والشارع.. وأصبت بالإحباط الذي يتزايد مع أي هدايا كتب مختلفة لاعتمد علي الاستعارة لاستمر في تقليد المذاكرة علي السرير أثناء الدراسة والقراءة اليومية ساعتين علي الأقل.
** وذات وقت ضائع.. فكرت الابنة في حل عملي.. اختارت مساحة كبيرة.. متاحة في صالة المعيشة.. لتتبادل مع أصدقائها تصميمات مناسبة.. لمكتبة منزلية مناسبة.. نفذتها أولاً بشكل "اقرأ" ولكن التنفيذ جاء غير عملي.. فاختارت نموذجاً آخر.. سعدنا بإنجازه.. عدت من العمل لأجد المكتبة الجديدة تعلن عن نفسها.. تستوعب الكتب المتناثرة.. يبقي بها مساحات لكتب قادمة.. يتجدد الأمل والحلم.. رغم بدء الوقت بدلاً من الضائع.. نودع معاً بقايا الكتب الممزقة.. يلتقي العقل والقلب.. يشكران الابنة صاحبة المعجزة.. ويفتتحان من جديد أبواب التعليم والإبداع.