الأهرام
وفاء محمود
جدول أعمال وزارة السعادة!
امكثى حيث أنت، صيحة (فاوست) بطل رواية جوته، فلم يكن يتحدث لأحد ولكن يهتف للحالة الفكرية والنفسية والجسدية التى كان بها وأحس فيها بشعور السعادة، أن تستمر ولا تنقضي، ولكن البقاء مستحيل، حتى لو استمرت الأسباب المنتجة لهذه السعادة، إلا أن الشعور من المستحيل أن يستمر، بنفس القوة التى بدأ بها، فطبيعة البشر الملل والبحث المستمر عن السعادة، كأنه خلق للجرى وراء السراب! وربما المتعة هى فى هذا الجرى الجميل لمطاردة السعادة!

وكان من الطريف أن تعين دولة الإمارات الناهضة وزيرة للسعادة، كما أعلن حاكم دبى الأمير (محمد بن راشد) مؤخرا عن وظيفة للأمل.

من المفروغ منه أن تحقيق هذه السعادة لمدينة مستقرة اقتصاديا واجتماعيا كدبى أكثر هونا من الوصول إليه فى دولة قديمة عجوز شاسعة المساحة كثيفة السكان كمصر، ولكن إذا نجحنا فى نطاق محدود فيمكن تعميمه على جميع النطاقات الواسعة، ولكن هل يمكن أن تحدد معنى السعادة والذى يمثل كل البشر؟ وهل من الممكن قياسه على غرار أهل الاقتصاد بأن النمو يساوى السعادة؟!

بالطبع لتحقيق السعادة لشعب ما لابد من تحقيق تقدم اقتصادى يضمن الرفاهة الاجتماعية لأفراده، فلا الفقير ولا المريض يمكن أن يشعرا بالسعادة، أما الجاهل فوطأة التعاسة مضاعفة عليه حيث يضع نفسه فى خانة عدم الرضا عن نفسه وعن نعمة الله عليه لشعوره الدائم بالظلم غير المبرر وتحميل الآخرين مسئولية فشله ومشاكله فينفس عن نفسه دائما بالشكوى والتململ بلا جدوى إلا التنفيس، حيلة العاجز الجاهل! بهذا أستطيع أن أبلور معنى السعادة يتلخص فى الرضا, فعندما يرضى الإنسان عن نفسه، فهى السعادة، والرضا عن الذات لا يأتى إلا بالانخراط فى المجتمع بشكل كامل، فالإنسان حيوان اجتماعى منذ بدء الخليقة كما قال الفيلسوف الإنجليزى «ديفيد هيوم».

ولأى صانع للأمل أو السعادة لابد أن يطلع جيدا على الجهد الفكرى لكبار الفلاسفة الذين خدموا الإنسانية، بتحليل طبيعة النفس البشرية، وخاصة هيوم الذى توفى فى القرن الـ 18 وقد وضع فكره أساس علم النفس المعرفى الحديث، والحقيقة أنه قد وضع الفضائل كلها كناتج طبيعى لغريزتنا الاجتماعية، نتلمس بها الارتباط بالغير ودونها نتعرض للعزلة، ووضع التعاطف كقانون للتجاذب الاجتماعي، فاكتسبت معايير الحق والباطل والخير والشر وطبعوها على سلوكهم فتشكل الضمير صوت الله!. فالرضا عن الذات شرط أولى للسعادة وهو يأتى من مجتمع متصالح متسامح يندمج أفراده على مختلف مستوياتهم ببعض، لا يشعر فريق بالظلم دون آخر، فيصل إلى درجة التعايش السلمى وهى عين المني!

عين المنى فى ذلك المجتمع أن تقل الآلام إلى أقل درجة وترتفع المتعة أو اللذة إلى أعلى درجة، وعاملا اللذة والألم أولاهما العديد من الفلاسفة أولوية كبرى منذ الفلسفة الأبيقورية وبنيت عليهما نظم اجتماعية فى الاقتصاد والعمل وفق تحقيق أمثل للتوافق الاجتماعى سواء الرأسمالى أو الاشتراكى وأخذ كلاهما من الآخر للتوفيق بين نشاط الأغنياء والعدالة الاجتماعية، إلا أن الأبيقوريين تكمن فلسفتهم فى التحكم فى الشهوات، حتى لا يرتفع الإحساس الكاذب بالألم فالتحكم فى الرغبات وإشباعها يصل بالإنسان إلى الرضا.

نشر ثقافة الرضا لا يأتى عن طريق الإقناع بالعقل ولكن عن العواطف والأحاسيس فما العقل إلا عبد لهذه المدركات الشعورية، فيرى «هيوم» أن العقل يميل على إطلاق الفضيلة على كل ما يعطينا اللذة، والرذيلة على مسببات الألم وكذلك مفاهيم القبح والجمال، لذا عندما يشعر الناس رغم المصاعب أن الحكام يقومون بأدوارهم على أكمل وجه فى تحقيق الأمن الداخلى والخارجى والاجتماعى تتولد الثقة التى هى الحائط الصلد الذى تنكسر عليه كل المؤامرات الخارجية، وأعطى مثالا خارجيا كالرئيس الروسى (بوتين) أو الرئيس الصينى (شى جين بينج) الذى لم يجد مقاومة تذكرلفتح تمديد فترات الرئاسة، لأنه حاز فى الأساس على شعور الثقة فى تحقيق أفضل ما فى الإمكان للمجتمع، فالثقة مفتاح السعادة من علاقة صديقين أو زوجين إلى علاقة شعب بحكامه! فالحياة ليست فقرا ولكن قلة رأي! أى حكمة قائمة على عواطف أصيلة! فعلى وزير السعادة أن يتصدر جدول أعماله الحفاظ على الثقة فى المجتمع بين الناس وبعضها، وبين الناس وحكامها بمنع التشهير منعاً باتا لما يحدثه من إشاعة مناخ الظلم لكل الأطراف المشهر بها والناس التى تقف حائرة فيمن تثق، ومنع التشهير ليس بالقمع أو الكبت ولكن بالمواجهة الحازمة بكشف الحقائق والشفافية، وأعتقد أن التشهير كان أهم الأدوات المستخدمة للهوجات العربية.

دعم الثقة يحتاج لجهد دائم لا يكتفى بموقف بطولى يحترمه الناس ثم يدع الأمور تجرى على أعنتها، فطبيعة النفس كما وصفها (هيوم) عبارة عن حزمة من الإدراكات المتعاقبة والانطبعات والانفعالات المتوالية لا تتوقف عند أفكار وأحاسيس ثابتة - وإن بدت كذلك - إلا أنها دائمة التدفق والحركة والتغير فكل أحاسيسنا بالألم أو اللذة عابرة وغير مستقرة فتدعيم الثقة المستمر كلمة السر فى السعادة العامة يليها التوسع فى الخدمات العامة من حدائق يتنفس فيها الجميع وشوارع منضبطة يأمن فيها الذاهبون والآتون وملاه فنية من سينما ومسرح ذات مضمون يتطهرون به فى كل حي، فماذا يريد الناس بعد ذلك؟ فالميل إلى الأمل والسعادة هو الثروة الحقيقية أما الميل إلى الخوف والأسى فذلك هو الفقر الحقيقي، كما قال (هيوم) أيضا!

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف