مراد وهبة
رؤيتى لـ«القرن الحادى والعشرين» الله والإنسان
فى 20 نوفمبر من عام 1210 وفى إحدى الأسواق بالقرب من باريس أُحرقت عشرة جثامين قيل عنهم إنهم هراطقة أى كفار ثم أضيفت بقايا جثمان آخر كان قد أُحرق قبلهم بثلاث سنوات بتهمة الهرطقة، وكان ذلك الجثمان لفيلسوف فرنسى اسمه أمورى دى بين كان أستاذاً لهؤلاء الهراطقة. كانت تهمته أنه قال بوحدة الوجود، أى بالوحدة بين الله والكون.
ومع ذلك كان له حواريون فى جامعة باريس وفى جامعات أخري. والمفارقة هنا أن اتهامه بالهرطقة لم يكن من الكنيسة بل من زملائه فى كلية اللاهوت، وعندئذ ارتحل إلى روما لمقابلة البابا إنوست الثالث لمعرفة موقفه من ذلك الاتهام. فى البداية أنصت البابا إليه ثم اندفع بعد ذلك للدفاع عن آراء زملائه فعاد إلى باريس يائساً وتقوقع حواريوه داخل جدران الجامعة خشية مواجهة المتاعب الواردة من الجماهير.
ولم تقف المسألة عند حد الاتهام بالهرطقة بل أضيف إليه المنع من إلقاء المحاضرات فى الفلسفة الطبيعية على نحو ما يراها أرسطو، إذ كان اعتقاد أسقف باريس أن أرسطو هو السبب فى اتهام هؤلاء جميعا بأنهم هراطقة لأن الله عنده لا يخضع لقوانين الطبيعة لأنه مجرد محرك للطبيعة فى البداية مع عدم مبالاته بما يحدث للبشر فى هذه الحياة الدنيا.
ولكن ليس معنى ذلك أن الطبيعة وُجدت بلا غاية بل معناه أن الطبيعة لها غاية. واللافت للانتباه هنا أن الهرطقة شاعت فى جنوب فرنسا وشمال ايطاليا. ومن هنا كان لابد من البحث عن أسلوب جديد لمنع ذلك الشيوع.
وقد تمثل هذا الأسلوب فيما سُمى ديوان الفهرست وهو ديوان مكلف من أعضائه بمراقبة الكتب ووضع المحظور منها فى سلة الكتب المحرمة ثم تسليم مؤلفيها إلى السلطة المدنية وحرقهم إن لزم الأمر.
إلا أن ذلك الديوان لم يكن إلا مجرد وسيلة سلبية لمنع الهرطقة، ولهذا كان من اللازم البحث عن وسيلة ايجابية وذلك بخلق مدافعين عن رؤية عن الله يلزم أن يقال عنها إنها الرؤية الحقة المطلقة والتى لن يكون لها بديل.
وقد تمثلت هذه الرؤية عند توما الأكوينى الذى دعاه الملك لويس التاسع للتحدث إليه فى شأن المهمة الجديدة التى لم تكن موجهة ضد فلسفة أرسطو بل ضد شارح فلسفته وهو الفيلسوف الاسلامى ابن رشد الذى كانت شروحاته ومؤلفاته قد ترجمت إلى اللغتين اللاتينية والعبرية ثم انتهت إلى تأسيس تيار فلسفى فى جامعات فرنسا وايطاليا اسمه الرشدية اللاتينية والذى كان سبباً فى تحرير أوروبا من العصور الوسطي. وأشهر هؤلاء الرشديين سيجر دى بربان.
والسؤال اذن:ما الفارق بين سيجر دى بربان وتوما الأكوينى فى صورة الله عند كل منهما؟
إن الفارق بينهما يكمن فى مسألة الفصل بين الايمان والعقل ومن ثم القول بحقيقتين مستقلتين: الحقيقة فى مجال الايمان والحقيقة فى مجال العقل، وهذا ما يسمى بثنائية الحقيقة. دعا إليها دى بربان فى قوله إن الايمان يقول والعقل يقول والقولان متناقضان ومع ذلك فكل منهما على حق.
رفض توما الأكوينى هذا القول ومن ثم اتهم دى بربان وحوارييه بالهرطقة، إذ كان من رأى الأكوينى أن العقل وإن كان عاجزاً عن فهم أسرار الايمان إلا أنه فى حاجة إلى إشراق من الله لكى يفهم إلى الحد الذى يمكن فيه العقل أن يستعين بسفر التكوين للعثور على الحقيقة وبذلك تتوارى ثنائية الحقيقة.
وبعد ذلك ارتحل توما الأكوينى إلى روما ليكون بجوار البابا، أما سيجر دى بربان فقد بقى هو وحواريوه فى باريس ليثيروا المتاعب والانشقاقات إلى أن قُتل دى بربان بطعنة من خنجر فى ظهره قام بها سكرتيره الخاص. وبعد ذلك أصبحت المعركة حادة بين التوماويين والرشديين.
وفى عام 1277 أعلن أسقف باريس أن عدد القضايا التى تتسم بالهرطقة وصلت إلى 219. ومع ذلك لم يتوقف الصراع حول صورة الله على نحو ما هى عند الله وصورة الله عند الانسان.
وفى القرن العشرين حاول أسقف أنجليكانى اسمه جون روبنسون الاجهاز على ذلك الصراع فأصدر فى عام 1963 كتاباً عنوانه لنكن أمناء لله. صدر منه فى ذلك العام تسع طبعات فى شهر واحد هو شهر مارس، ثم صدر فى ذلك الشهر أيضا كتاب عنوانه حوار حول كتاب لنكن أمناء لله.
وفى عام 1988 صدر كتاب آخر عنوانه «حقيقة الله» وذلك بمناسبة مرور ربع قرن على صدور كتاب لنكن أمناء لله. والمغزى أنه ليس فى الامكان الحديث عن تجديد الخطاب الدينى من غير إثارة ما ورد فى هذين الكتابين.