استدعيته ذات يوم لمساعدتي في ترتيب بعض الصحف تمهيداً لإرسالها إلي التجليد.. فقد كانت العادة لا أعرف كيف أتخلص منها.. وهي تجميع جميع الصحف والمجلات الصادرة يومياً وأسبوعياً وشهرياً.. وتجليدها في مجلدات.. وضاق منزلي بحصيلة أكثر من خمسين عاماً من هذه المجلدات التي يتم تجليدها علي فترات دورية بين ثلاثة أشهر وستة أشهر وعام.. ويساعدني في هذا أخ عزيز ورث مهنة التجليد التي كادت تنقرض أو انقرضت بالفعل.. فلم يعد أحد يحفل بتجليد كتاب أو مجموعة كتب أو صحف أو مجلات.. هو الأخ العزيز عبدالحميد السعدني الذي ورث مهنة التجليد عن والده الراحل الكريم الحاج أحمد السعدني.. وتقريباً لم يعد لديه زبائن غيري.. وهو علي ما أعتقد قد سرَّح جميع عماله.. ليستدعيهم وقت الحاجة إليهم.. عندما أخبره بأن دفعة جديدة من الصحف والمجلات جاهزة للتجليد.
عملية التجليد هذه.. هي في الأصل لها تكلفة.. أغضبت الكثيرين ممن حولي.. ممن يعترضون أولاً علي تكلفة هذه الهواية المزعجة.. لهم بطبيعة الحال.. وأولهم زوجتي السيدة فادية التي أحرص كل فترة علي تجديد معاهدة عقدتها معها بشأن عدم الاعتداء أو الاعتراض علي صحفي ومجلاتي أو كتبي.. وأن تكون هذه الصحف وهذه المجلات والكتب ايضا شأناً خاصاً بي. لا دخل لها به.. وأنا أشتري من كل شيء نسختين نسخة للتجليد لتظل جديدة "مكوية" كما تصل من بائع الصحف.. ونسخة للقراءة وتقطيع قصاصات منها لما أريد الاحتفاظ به.. وتساعدني في هذا رشا مساعدتي.. وهم بهذا تؤرقهم هذه التكلفة.. فضلاً عن زحام الصحف والكتب والمجلدات والقصاصات كذلك.. كما أني من حين إلي حين. أتعرض لنقض المعاهدة بموجات من الاعتراض.. ولكن لا استسلم أبداً لانتهاك المعاهدة واتمسك بها.
ذات يوم تغيب عني مساعد يعرفه الكثيرون ممن يتعاملون معي. وأرسله في أحيان كثيرة ليشتري ما قد ينقص المجموعة مما أغفله البائع أو نسيه.. حتي تكتمل.. وتصبح صالحة للتجليد.. تغيب "مخلص" الذي يزاملني هذا العمل منذ أكثر من 50 عاماً. وتكدست الصحف.. فسعيت إلي أحمد.. ابن بوابنا.. وقد قال لي إنه يدرس في المرحلة الابتدائية ببني سويف.. ولأني أراه دائماً موجوداً في القاهرة معنا سألته أكثر من مرة متي يدرس إذن؟ قال حافظ. والده وبوابنا النشيط. نحن نتسلم كتبه ونأتي بها معنا ثم يسافر هو في موعد الامتحانات ليؤدي الامتحان.. تعجبت.. وسألت ألا توجد نسب غياب وحضور؟.. المهم.. نجح أحمد.. ونال الابتدائية.. وشجعني هذا علي الاستعانة به في ترتيب الصحف والمجلات وإعدادها لكي يتسلمها المجلد.
وجاء أحمد.. فأخذته إلي أكوام الصحف والمجلات التي يراد فرزها وترتيبها.. وشرحت له المهمة التي سيقوم بها.. وتركته فترة.. لأعود بعدها.. فأجده صامتاً.. ينظر إلي الصحف التي في يده.. وتلك التي أمامه.. ثم يعاود النظر مرات ومرات في الاتجاهين.. سألته في إيه يا أحمد..؟ باختصار شديد كانت الصدمة.. حامل الابتدائية.. لا يستطيع أن يقرأ أسماء الصحف والمجلات..!! وبالطبع لم يرد أحمد علي سؤالي وكيف نجحت إذاً؟.. واكتفي أحمد بالنظر إلي الأرض.. ربما هرباً من نظراتي إليه.. أو خجلاً مما اكتشفته بشأنه.
قلت لأحمد.. لا بأس.. سأبد معك من جديد.. سأكتب لك أيام الأسبوع وأسماء الشهور.. وأسماء الصحف والمجلات.. وهي ما ستحتاجه في المهمة التي استنعت بك من أجلها وقلت له: عليك مذاكرتها.. وكتابتها عدة مرات ثم نلتقي بعد يومين.. وبعد يومين لم يكن قد انتهي من المهمة.. فمنحته أكثر من مهلة حتي اكتمل الأسبوع.. فسألته جاهز؟.. فأجاب بالإيجاب.. فبدأت بالاختبار.. كتبت له أيام الأسبوع بغير ترتيب.. وكذلك أسماء الشهور.. وبدأت بسؤاله عن أول يوم في قائمة الأيام.. قلت له ما هذا اليوم يا أحمد.. فقال بكل ثقة: "السبت".. فكانت صدمة لي.. لكن لم أظهر انفعالي.. وعدت أشير إلي أسماء أخري من أيام الأسبوع أو الشهور.. فلم تخرج الإجابة عن "حنش" وهي تلك الإجابة المشهورة لعبدالفتاح القصري مع فؤاد المهندس.. في فيلم الأستاذة فاطمة عندما وجد صورة ثعبان.. وتحتها كلمة ثعبان.. فكان جوابه بكل ثقة "حنش".
المهم.. أفضيت إلي أبيه بهذه النتيجة.. واتفقنا علي أنه سيعهد به إلي أحد محفظي القرآن في زاوية قريبة. وهو في نفس الوقت سيعلمه القراءة والكتابة.. بعد أن حصل علي الابتدائية.. وهو لا يعرف القراءة.. ولا الكتابة.. وليس هو وحده بدعا في هذا.
ذكرني بهذا حديث الأطفال في بورسعيد.. وكلمات بلدياتي السوهاجي الذي ترك المدرسة وجاء إلي بورسعيد ليعمل لدي حيتان المدينة من المهربين.. وظهور والده في حديث مع إحدي الصحف.. يتحدث عن ابنه الذي عمل في التهريب وأنه ليس في حاجة إلي ذلك.. لأنه مستور والحمد لله.. ولكن لم يقل لنا أحد.. هل أجري لهؤلاء الأطفال اختبار "حنش"؟! وللحديث بقية إن شاء الله..