أحمد الجمال
المخزون الحضارى والوجدانى
يقال إنه كما أن فى مصر شبكة مياه جوفية هائلة فإن فيها أيضًا ما يمكن أن يأخذ الصفة نفسها، أى أن هناك اقتصادًا جوفيًا.. وثقافة جوفية.. ومكنونًا وجدانيًا جوفيًا.. وكلها- من المياه للاقتصاد للثقافة للوجدان- غير معلومة الحجم والعمق، رغم أن تأثيراتها بالغة القوة فى حياتنا اليومية، بل فى مجمل وجودنا كجماعة إنسانية.
ولست بصدد الحديث عن المخزون الجوفى للمياه، ولا عن حجم الاقتصاد الجوفى أو السري، وإنما بصدد بعض الإشارات للثقافة والمكنون الوجدانى الجوفيين، أى الكامنين فى عمق التكوين الذاتى للشخصية المصرية، خاصة أننا فى أيام التقى فيها صوم العذراء وعيدها الليالى العشر وعيد الأضحى.
إنها ليست مصادفة أنه إذا ذكرت مصر ذكر معها هاجر أم إسماعيل أبو العرب.. وذكرت زوج إسماعيل نفسه، لأن أمه وزوّجته من مصر.. ثم ذكرت مارية القبطية أم إبراهيم ابن النبي- صلى الله عليه وسلم- ثم تتوج الأمور بذكر العذراء مريم أم النور، التى اصطفاها الله وطهرها واصطفاها على نساء العالمين! أى أنها الإنسان الوحيد الذى ذكره القرآن الكريم بالاصطفاء مرتين والطهر!
وليست مصادفة أنه إذا جاء الحج حضرت هاجر- رضى الله عنها وأرضاها- وهى من نصت التوراة أن الله كلمها بواسطة الملاك، ووعدها بأنه سيجعل من ابنها أمة عظيمة, التوراة سفر التكوين إصحاح 21، وليست مصادفة أيضًا أنه إذا كان الحديث حديث تضحية وتحمل للمسئولية فإننا نجد أنفسنا أمام ضفيرة مصرية لم يقم بتضفيرها فى الوجدان الإنسانى سوى أهل مصر وخصوا بها المرأة.. والمرأة وحدها! لتضم إيزيس، الأم الكبرى التى شاهدت وعاشت مأساة مصرع أخيها وزوجها إله الخير أوزوريس، فما كان منها إلا أن سعت بغير كلل ولا راحة لجمع أشلائه التى ألقاها إله الشر فى أفرع النيل التى تجاوزت آنذاك أربعين فرعًا، ومن أشلائه المجمعة حملت معنويًا دون لقاء جسدى فى حور أو حورس، الذى حارب الشر وانتصر عليه، ومن دموع أمه التى ذرفتها حزنًا على أوزوريس جاء فيضان النيل! ثم تضم الضفيرة هاجر المصرية التى قبلت الارتباط والسفر مع رجل ليس من أهل وطنها، وعاشت معه تعانى تعالى وتحكم زوجته سارة، ثم قبلت القرار بالذهاب مع ابنها إسماعيل بعيدًا بزاد وماء قليلين، ولذلك جاءت المكافأة الإلهية بأن جاءها الماء، وعاشت مع ابنها، وصارت حركتها ركنًا من أركان الحج فى الإسلام.. ثم تأتى جوهرة العقد السيدة مريم المصطفاة مرتين والمطهرة، وهى من شهدت ما حدث لابنها الذى عانت نظرات واتهامات اليهود بعد ظهور حملها به، وعانت أكثر وأكثر فى مشهد الجلجلة!
وتكون الخاتمة بالسيدة زينب ابنة الإمام علي- رضى الله عنهما- التى تحملت ما لا يطيقه أعتى الرجال فى كربلاء، يوم ذبح أخيها سيد الشهداء ومعه معظم آل البيت، ومنهم ابناها محمد وعون، ومع ذلك بقيت قوية صامدة حتى وهى تتقدم موكب الأسرى من وراء رأس أخيها الإمام الحسين، وتترافع بطلاقة ورباطة جأش عمن تبقى من آل البيت، إلى أن تصل إلى مصر فيلقبها المصريون بـالطاهرة.. رغم أنها لم تكن بتولًا وإنما تزوجت وأنجبت، لنكتشف أن الطهر فى وجدان المصريين ليس العذرية بقدر ما هو التضحية والشجاعة والصبر والفداء.
ذلك هو بعض من مخزوننا الحضارى والوجدانى العميق.. فهل من متدبر؟!