اكتشفت أني ربما أكون أقدم محرر لرسائل القراء في الصحافة المصرية.
فمنذ يناير 1977 وحتي الآن. وأنا أحرر رسائل القراء في "الجمهورية" بانتظام. أي لمدة تزيد علي واحد وأربعين سنة متصلة. غير فترات متقطعة قمت فيها بهذه المهمة قبل هذا التاريخ. وبالتحديد في النصف الثاني من العام 1975. والأول من العام 1976.
وقد حررت خلال هذه الرحلة الممتدة. والتي تبلغ بالضبط أربعة أخماس عمري الصحفي الذي جاوز نصف القرن. أبواب "مع الناس" في "الجمهورية" اليومي. و"رسائل العدد الأسبوعي" ثم بعد أن تحول إلي "مع الجماهير" و"الركن الهادي" في الجمهورية الأسبوعي.
وعلي مدي الواحد والأربعين عاماً. لم أكتب اسمي قط علي ما أحرره من هذه الأبواب. فيما عدا فترة محددة فيما بين 1977 و1981. لسبب ربما أذكره فيما بعد.
وأعتقد أن الكثيرين من متابعي "آخر الأسبوع" وأيضا من مراسلي صفحة "مع الجماهير" و"الركن" سيفاجأون بذلك.
وقد بدأت علاقتي برسائل القراء في "الجمهورية" تحديداً. وأنا طالب في السنة الأولي بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة في العام الجامعي 61 ــ 1962.
كان لدي وقتها شغف بالصحافة بدأ منذ المرحلة الإعدادية بمجلة حائط للفصل بمشاركة عدد من زملائي. وتشجيع من مدرس اللغة العربية.. وتحول الشغف إلي حلم كبير بأن أعمل يوماً بالصحافة.
كانت قريتي "وردان" بأقصي شمال محافظة الجيزة تتحدث كلها عن "إبراهيم الورداني" الأديب والكاتب الصحفي الكبير وقتها في "الجمهورية". الذي كان سبب شهرتها بين القري. بعد أن حمل اسمها بدلاً من لقب عائلته الأصلي. فقد كان اسمه الحقيقي "إبراهيم التشي".
وكنت أشعر بالغيرة والتحدي في نفس الوقت. كلما سمعت هذه الأحاديث. حتي راهنت أبي وأمي ذات يوم وأنا بالمرحلة الثانوية. أنني سأكون صحفياً. وسأتفوق علي إبراهيم الورداني.
كان إبراهيم الورداني مسئولاً وقتها عن باب "مع الناس" الذي يتلقي رسائل وشكاوي القراء بالاضافة إلي عموده اليومي الساخر المشاكس الذي كان يكتبه بعنوان "صواريخ". والقصص القصيرة التي كان ينشرها في الجريدة.
وكان ــ في باب مع الناس ــ دائم الدعوة للشباب والكبار الذين تركوا قراهم وأصبحوا نجوماً في العاصمة والمدن الكبري. بأن يعودوا إلي هذه القري ليشاركوا في نهضتها بما اكتسبوه من خبرات أو ثروات. رغم أنه منذ ترك القرية إلي القاهرة. لم يعد إليها أبداً.
وقررت أن أشاكسه. فبعثت إليه برسالة علي باب "مع الناس" في مثل هذا الوقت من عام 1962 خلال الإجازة الصيفية. أؤيد فيها دعوته. وأبدي استعدادي الكامل لتنفيذها باعتباري وقتها أول شاب من القرية يلتحق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية.. واسأله: ما رأيك في أن نعود سوياً.. أنت وأنا ومن يلتحق بنا من شباب أو كبار. إلي قريتنا وردان لنطبق فكرتك عملياً. وتكون أول تجربة لها؟!
وفوجئت بعد أسبوع برسالتي منشورة بالكامل في صدر باب "مع الناس". وإبراهيم الورداني يعلق عليها مشيداً بها. لكنه تخلص بدبلوماسية من المأزق الذي تصورت أني وضعت فيه وقال إن هذه مهمة الشباب. وأن الكبار مثله علي وشك أن يسلموا الراية لهم.
لم أصدق نفسي وأنا أري رسالتي كاملة منشورة باسمي. واشتريت خمس نسخ من "الجمهورية" وأنا أجري فرحاً إلي البيت لأبشر أبي وأمي بأن هذه أول خطوة لكسب الرهان.
شعرت يومها بحجم السعادة الهائل الذي يشعر به قارئ الجريدة حين يبعث برسالة لجريدته المحببة فيراها منشورة باسمه.. وسألت نفسي: لماذا لا أكون سبباً في إسعاد الناس بهذه الوسيلة؟! وقررت أن أضم إلي حلمي بالعمل في الصحافة. أن أحرر رسائل القراء أيضا.
ولأن نيتي في ذلك كانت ــ بعلم الله وحده ــ صادقة.. فإن الله لم يتخل عني.
ودارت الأيام. وتوالت الأحداث. بل والمفاجآت.
في صيف 1967 بعد تخرجي في الكلية بعامين التحقت بالعمل بقسم الأبحاث في "الجمهورية" كمحرر من الخارج.
وفي مثل هذا اليوم من نفس السنة. أي 23 أغسطس 1967 نشر لي القسم أول مقال أكتبه باسمي. علي ثلاثة أرباع الصفحة الثالثة من "الجمهورية" تتوسطه "ترويسة" تحمل اسمي وتسبقه كلمة "بقلم" التي لم تكن تستخدم عادة إلا مع كبار الكتاب.
وكان المقال عن قمة الخرطوم العربية التي دعا إليها العاهل السعودي وقتها الملك فيصل لمداواة جراح مصر من هزيمة يونيو 1967.
قبل منتصف عام 1975 ــ وكان قد تم تعييني محرراً سياسياً في "الجمهورية" في أبريل 1971 ــ جاء الأستاذ والصحفي الكبير محسن محمد إلي "الجمهورية" رئيساً للتحرير. وقرر من أول يوم نقل مسئولية تحرير وقيادة الجريدة من الجيل القديم الذي كان مسيطراً عليها. إلي شباب الصحفيين الذين وجدهم فيها. وإلي خريجي كلية الإعلام التي كانت قد بدأت تطرح أولي دفعاتها.
وفوجئت بمحسن محمد يختارني لأتولي مسئولية باب "مع الناس" بدلاً من إبراهيم الورداني الذي تفرغ لكتابة صواريخه ورواياته!
يا الله.. أنا الذي لم يمض علي تعييني بالجريدة سوي أربع سنوات أنفرد بتحرير باب ثابت من أهم أبواب الجريدة والصحف بصفة عامة؟!
وأي باب؟! "مع الناس" الذي أسعدني بنشر أول رسالة لي وأنا طالب ومجرد قارئ؟!
وبدلاً مِن مَن؟! من إبراهيم الورداني بالذات. ابن قريتي. والأديب والصحفي الكبير الذي راهنت ذات يوم علي أن أكون صحفياً وأتفوق عليه؟!
ومن يومها قررت ألا أتخلي عن تحرير رسائل القراء وإسعاد أصحابها. بالنشر لهم. وبمساعدتهم علي حل مشاكلهم التي يشكون منها في رسائلهم.. وأن أجعل من ذلك وسيلة لترويج الجريدة وانتشارها.
وظللت متمسكاً بهذه المسئولية وأنا أنتقل من موقع إلي موقع. متدرجاً من محرر إلي نائب رئيس تحرير إلي مدير تحرير. إلي رئيس تحرير. ثم رئيس مجلس إدارة. وبعد التقاعد من المناصب حتي اليوم رغم أعباء كل موقع.
واستطعت بفضل الله أن أقدم لـ "الجمهورية" نجوماً من الصحفيين الذين تدربوا علي يديّ في هذا المجال. بل وأن أساعد بعض شباب القراء الجامعيين علي الالتحاق بالجريدة فور تخرجهم. ليصبحوا أيضا نجوماً فيها.
المفاجأة الأخيرة في هذا المقال. أن إبراهيم الورداني عاش ومات دون أن يعرف أني "بلدياته" أو أن منافسته كانت أحد أقوي أحلامي. ولم ألتق به شخصياً قط رغم أننا كنا في جريدة واحدة.