دائماً ما كانت مصر مطمعاً، والطموح إلى حكمها لا يعدله طموح لأى من طلاب السلطة، فرغم تسلطن سليم شاه (سليم الأول) على عرش الإمبراطورية العثمانية، إلا أنه أبى أن يحرم نفسه من الإحساس بنعمة التسلطن على عرش مصر، فجلس على كرسى حكمها لمدة 8 شهور. واختار موقعاً له على النيل (فى منطقة المقياس) ليعيش فيه. يشير «ابن إياس» إلى أن «سليم شاه» لم يهوَ العيش فى القلعة -مقر الحكم- ولا فى بيوت أمراء المماليك التى استولى عليها جنوده، وفضل العيش على ضفاف النيل، ومن العجائب أن النيل كاد يبتلعه أكثر من مرة، لكن الله تعالى كتب له النجاة، وقد ابتلع له خاتماً أثرياً ورثه عن آبائه وأجداده، حزن عليه كثيراً. اختار «سليم شاه» العيش على النيل بشكل مقصود وواعٍ، انطلق فيه من الآية القرآنية التى تنقل ما كان يردده فرعون مصر فى مواجهة كليم الله «موسى» وهو يحدثه عن الجنة: «أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى أَفَلَا تُبْصِرُونَ».
لم يصن «سليم شاه» النعمة التى أنعم الله عليه بها، حين آتاه ملك مصر، ولم يراعِ حرمة الإنسان ولا المكان. فعلى مستوى الإنسان يقول «ابن إياس»: «ابن عثمان هتك حريم مصر، وما خرج منها حتى غنم أموالها، وقتل أبطالها، ويتَّم أطفالها، وأسر رجالها، وبدد أحوالها، وأظهر أهوالها. فلم يدخل إليها أحد من الخوارج، ولا ملكها أحد قط، ولا جرى مثل ما جرى من ابن عثمان إلا ما كان فى زمن بختنصر البابلى، فقد جرى عليها من ابن عثمان بعض ما جرى عليها من بختنصر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم». قد يكون «ابن إياس» مبالغاً فى هذا الوصف، فقد تعرضت مصر وشعبها للعديد من المحن قبل دخول «سليم شاه»، لكنه أراد أن يصف حالة الفوضى التى خلقها السلطان العثمانى فى ربوع مصر، وكيف افترى على ناسها وأذاقهم الأمرين وأذل كبرياءهم، فقتل سلطانهم، واستباح نساءهم، وكسر رجالهم. وقد فعل هذا مع مسلمين مثله، وربما كان من بينهم من هو أشد إيماناً منه. كل ما يذكره «ابن إياس» يؤكد حقيقة أساسية هى أن ما حدث لمصر على يد «سليم شاه» لم يكن «فتحاً» بل كان «استعماراً» عسكرياً غاشماً بمعنى الكلمة، لم يأت «سليم شاه» إلى مصر بعقلية فاتح، بل بعقلية غازٍ مستعمر، أراد بعد أن دانت له البلاد أن يكسر أهلها ويستذلهم.
أما على مستوى المكان فحدث ولا حرج، فقد تعامل «سليم شاه» مع الثروات التى أنعم الله بها على مصر بمنطق اللص، واعتبر نتاج معطيات حضارة المصريين التى تراكمت عبر قرون ممتدة من الزمان، غنيمة حرب، وقد بلغ به الطمع حد اقتلاع رخام القلعة ليسحبه معه إلى إسطنبول. يقول «ابن إياس»: «وأشيع أن ابن عثمان خرج من مصر ومعه ألف جمل محملة، ما بين ذهب وفضة، هذا خارجاً عما غنمه من التحف والسلاح والصينى والنحاس والخيول والبغال والجمال وغير ذلك، حتى نقل منها الرخام الفاخر، وأخذ منها من كل شىء أحسنه، مما لم يفرح به آباؤه ولا أجداده من قبله أبداً، وكذلك ما غنمه وزراؤه من الأموال الجزيلة، وكذلك عسكره، فإنهم غنموا من النهب ما لا يحصى وصار أقل ما فيهم أعظم من أمير مائة ومقدم ألف، مما غنمه من مال وسلاح وخيول وغير ذلك.. فما رحلوا عن الديار المصرية إلا والناس فى غاية البلبلة». هذا النص المنقول من «ابن إياس» يلخص نظرته إلى «سليم شاه»، فهو يراه «محدث نعمة»، أو مسلماً ساذجاً بهرته أضواء حضارة ومعطيات حضارة المصريين فعبَّ منها عباً، واكتنز منها كل ما وصلت إليه يداه، مما لم يعهده هو ولا آباؤه وأجداده. إنه الولع بتجريف هذا البلد وإذلال أهله.