المصريون
جمال سلطان
"الأردوغانية"..كيف حسم المعركة مع التنظيم الديني الخطير؟
كانت معركة أردوغان الثانية مع التنظيم الديني القوي المتغلغل في مؤسسات الدولة الحساسة ، تنظيم جولن أو "حركة الخدمة" ، والذي يملك نفوذا كبيرا في الجيش نفسه وفي الشرطة والقضاء والادعاء العام والإعلام والتعليم ، فضلا عن عالم المال ، وهو تنظيم كان يخطط لأن يحكم بديلا من الدولة العميقة ، وبنفس أدواتها ، يدير الأمور من وراء ستار ، ويحرك السياسيين كقطع الشطرنج ، ويتحكم في كل شيء في الدولة دون أن يختاره الشعب في انتخابات سياسية أو أن يتحمل أي مسئولية دستورية عن قراراته وتدخلاته.
عمل أردوغان على تحييد حركة "الخدمة" في البداية ، وحاول الاستفادة من نزعتها المحافظة في دعم شعبية الحزب في الداخل ، وأجل الصدام معها ، لكنه كان صداما محتوما ، فبدأ يمنع تدخلاتها في بعض شئون الدولة ، وفهمت الحركة أن "أردوغان" ليس من الشخصيات السياسية التي يمكن إدارتها كقطع الشطرنج ، كما يفعلون مع الآخرين ، وبدأت الهوة تتسع تدريجيا بين الطرفين ، فبدأ تنظيم جولن يخطط لإسقاط أردوغان بطريقته ، ومستخدما أدواته في القضاء والشرطة تحديدا ، وفي الـ 17، والـ 25 من ديسمبر/ كانون أول عام 2013 أفاقت تركيا على ضجة كبيرة عندنا حرك مدعون عموم ـ تبين بعد ذلك انتماؤهم لجماعة جولن ـ قضايا فساد ضد قيادات بحزب العدالة ، بل وضد ابن أردوغان نفسه ، ونشرت تسجيلات صوتية مثيرة بدا منها أن جهات غامضة كانت تتجسس على الدولة نفسها ، وعلى رئيس الجمهورية نفسه ، واهتزت الحكومة بشدة على وقع تلك الهجمة المفاجئة ، والتي وصفت بالانقلاب الناعم الذي أداره "الكيان الموازي" أو تنظيم جولن الديني السري الخطير ، وكشف النقاب عن أن المدعي العام بطل المعركة الأساس كانت له سفرات غامضة إلى دبي في الإمارات ، وكان يقيم ببذخ لا يبرره راتبه الرسمي ، والمهم أن الحزب نجح في النهاية في ضرب هذه الهجمة والكشف عن أبعادها والاختراقات التي حدثت في جهازي القضاء والشرطة ، ووقعت سلسلة من التطهير التي شملت القطاعين .
تنظيم جولن الديني السري لم يستسلم للهزيمة ، ولم يكن أحد يتصور أنه يصل بإصراره على سحق أردوغان إلى حد الترتيب لانقلاب عسكري خطير للغاية ، في صيف 2016 ، وهو الانقلاب الذي تابعه العالم كله على الهواء مباشرة ، عندما نزلت الدبابات إلى الميادين والشوارع وسيطرت على الجسور واقتحمت محطات الإذاعة والتليفزيون ، وقامت الطائرات الحربية بقصف مبنى البرلمان لإجبار الأعضاء على الاستسلام وعدم المقاومة ، وسيطر الانقلابيون على قائد الأركان واعتقلوه ، كما وقعت معارك في أماكن عديدة بين الانقلابيين وقطاعات من الشرطة الموالية للسلطة الشرعية ، كما نزل الملايين إلى الشوارع كمتاريس لمنع تمدد الانقلابيين .
كان الانقلاب العسكري محكما ، والترتيب له على أعلى المستويات ، كما ثبت أن جانبا مهما من إدارته وتوجيهه كان ينطلق من عواصم إقليمية ودولية ، غير أن ذكاء أردوغان وخبرته السياسية الطويلة بدولاب الدولة وطريقة عمل الأجهزة وعلاقاتها وجسارته وتماسكه في المواجهة ورفضه التسليم والاستسلام وظهوره على شاشة تليفزيون يدعو الملايين للنزول إلى الشوارع ومواجهة الانقلابيين ، وإعلانه أنه قادم إلى اسطنبول خلال ساعات ، بعد أن روج الانقلابيون وإعلامهم أنه هرب إلى ألمانيا ، وكان أول من أذاع هذا الخبر العجيب عن هروبه لألمانيا إحدى القنوات الفضائية التابعة لحكومة أبو ظبي .
كذلك نجح رئيس الوزراء يلدريم في الهرب من ملاحقيه داخل أحد الأنفاق التي كانت تحت الإنشاء وتواصل مع المؤسسات والأجهزة عبر تويتر ورسائله التي عزلت الانقلابيين معنويا عن بقية قطاعات الجيش وأعطت انطباعا ماكرا ـ لم يكن صحيحا ـ بأنهم مجموعة عسكريين محدودة متآمرة ، وتدخل العناية الإلهية بإنقاذ أردوغان من الاعتقال أو القتل بمغادرته الفندق الذي يقضي فيه إجازته قبل ثلاثة عشر دقيقة فقط من اقتحامه من قبل كتيبة عسكرية مكلفة بإحضاره حيا أو ميتا ، وهي مشاهد مسجلة بالصوت والصورة الآن من خلال كاميرات المراقبة ، إضافة إلى قيام ضابط وطني بالقوات الخاصة (عمر خالص دمير) بقتل أبرز قادة الانقلاب بمسدسه عندما طلب منه تسليم مقر قيادة القوات الخاصة مما أربك قيادة الانقلاب وغير مسار الأحداث فكان قتل الجنرال سميح ترزي الذي كان يسعى للسيطرة على مقر القوات الخاصة نقطة تحول في مجريات الأحداث ، وذلك قبل أن تقوم قوات الانقلاب بقتل الضابط "عمر دمير" في الحال ، وهذا المشهد أيضا مسجل بالصوت والصورة وتمت إذاعته ضمن وثائق الانقلاب ، وقد بكى أردوغان كثيرا على هذا الضابط الشجاع ودائما يزور قبره في المناسبات المختلفة ويضع عليه أكاليل الزهور ويسقيها بالماء ، و"عمر دمير" الآن بطل قومي عند الأتراك ، لأنه كان من الأسباب الكبيرة في فشل الانقلاب .
ومما ساهم أيضا في إعاقة الانقلاب واضطراب حراكه يقظة كوادر حزب العدالة والتنمية ـ حزب أردوغان ـ في البلديات المنتخبة ورفضهم الاستسلام لقرارات الضباط الانقلابيين وقموا بجهد كبير في إعاقة الانقلاب فأمروا سائقي حافلات النقل العام التابعة للبلديات بالتوقف في عرض الطريق ـ خاصة الطرق الرئيسية ـ وإغلاق الحافلة ومغادرتها ، لسد الطرق أمام حركة الدبابات ، كما قام اصحاب سيارات النقل الثقيل بالعمل ذاته ، فضلا عن خروج مئات الآلاف من المواطنين استجابة لنداء الرئيس عبر تطبيق صوتي بالموبايل للشوارع والتصدي للدبابات ، وقد قتل منهم أكثر من مائتين وخمسين مواطنا ، من بينهم أحد أعز أصدقاء أردوغان ومصمم شعار الحزب ، قتل هو وابنه عند تصديهم لدبابات الانقلابيين مع عدد من المتظاهرين عند أحد الجسور في اسطنبول ، كما وقفت بعض قطاعات الشرطة المدنية في حدود إمكانياتها ضد التحرك الانقلابي ، وكذلك فشل الانقلابيين في إقناع رئيس الأركان بالانضمام إليهم فقاموا باعتقاله وخطفه قبل إنقاذه بعد ذلك ، إضافة إلى انحياز قائد الجيش الأول في اسطنبول إلى الرئيس ووعده بتأمين نزول طائرته في مطار اسطنبول حيث استقبلته حشود ضخمة ، إضافة إلى سلسلة إجراءات مدنية لغلق مداخل المطارات العسكرية بالحشود البشرية وسيارات النقل الثقيل وغيرها بما في ذلك قاعدة "انجرليك" الجوية التي تستخدمها قوات حلف الناتو ، لمنع الانقلابيين في سلاح الطيران من الحركة ، بعد أن قاموا بقصف مبنى البرلمان بالطائرات .
كانت ليلة السادس عشر من يوليو 2016 أطول ليلة في تاريخ تركيا الحديث ، قبل أن يشرق الصباح على هزيمة الانقلاب العسكري وفرار بعض قياداته خارج البلاد واعتقال الباقين ، ليبدأ أردوغان وحكومته بعدها عملية تطهير واسعة النطاق ، شملت الآلاف من سياسيين وإعلاميين وصحفيين وقضاة ورجال نيابة "مدعين عموم" من أعضاء الجماعة أو الموالون لها ، إضافة إلى عناصر شرطة وعناصر جيش ، جميعهم ممن ثبت تورطهم مع التنظيم في مخطط الانقلاب ، وقد وثقت جهات التحقيق اعترافات كثيرة ، كانت صادمة للأتراك ، وكشفت عن أن الانقلاب كان واسع النطاق وبالغ الخطورة والإحكام ، لكن الله كان لطيفا بتركيا وشعبها ودولتها المدنية الحديثة
أثناء التحقيق مع العناصر الرئيسية في الانقلاب وقعت بين يدي المحققين مفاتيح "تطبيق" الكتروني كانت تستخدمه جماعة "جولن" والجنرالات الانقلابيين الموالين لها في تنسيق وتوزيع أدوار المحاولة الفاشلة في يد جهات التحقيق بعد فشل الانقلاب ، وفوجئ الجميع بأن مئات القضاة كانوا متورطين في الانقلاب ولديهم خطة للتعامل مع المعتقلين من قيادات الأحزاب والحكومة وغيرهم بعد السيطرة على الدولة ، وكان من عادة الجنرالات في الانقلابات السابقة في تركيا أن يسيطروا على مجموعة من القضاة الفاسدين لتصديرهم في مشهد الإجراءات العنيفة والقاسية لإضفاء مسحة قانونية على قرارات الاعتقال وأحكام السجن والإعدامات الظالمة لعشرات الآلاف من المعارضين أو النشطاء .
كانت هزيمة انقلاب 2016 نقطة فاصلة ، وصمم أردوغان على أن يجري عملية التطهير الشامل عقبها ، فصدرت قرارات بعزل مئات القضاة الفاسدين والموالين للانقلاب العسكري ، كما صدرت قرارات فصل آلاف من كوادر الشرطة ومن ضباط الجيش ، وكذلك من الجهاز الإداري للدولة الذين كانوا يدينون بالولاء لزعيم تنظيم الحركة الديني في تركيا ، كما صدرت قرارات بخروج معسكرات الجيش بالكامل من المدن الكبرى والرئيسية مثل اسطنبول وأنقره ، ونقلها إلى الثغور وحدود الدولة باعتبار أن هذا هو مكان عملها الأساس ، ولمنع أي مغامر من تحريك دباباته فجأة داخل المدن ويهدد الدولة والشعب .
كان أردوغان يرى أنها لحظة حسم تاريخية لحماية الدولة المدنية في تركيا من شبح الانقلابات العسكرية ، وحماية الديمقراطية من تغول الجماعات الدينية السرية عليها وتحكمها من وراء ستار في حركة الأحزاب والنقابات والإعلام وغيره .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف