محمد أبو الحديد
فساد أفراد.. لا فساد دولة
عندما ذهب المهندس مصطفي مدبولي رئيس الوزراء وزير الإسكان يوم الثالث عشر من أكتوبر الماضي إلي مدينة السادس من أكتوبر. لتسليم عدد من الوحدات السكنية لمستحقيها. ضمن مشروع ضخم للإسكان الاجتماعي المدعوم من الدولة. فوجئ بما لم يتوقعه. وهو وجود مجموعة من سماسرة العقارات في الموقع. يقومون بالاتجار في الوحدات السكنية للمشروع. عن طريق إيجاد مشترين لها من حاجزيها بأسعار أعلي. بما يحقق فائدة للأطراف الثلاثة: الحاجز يستفيد بفارق السعر.. والمشتري يستفيد لأن هذا السعر الأعلي أقل مما سيدفعه لو أراد شراء وحدة مماثلة بالطرق الطبيعية. والسمسار يستفيد بعمولته من الطرفين.
ولم يجد رئيس الوزراء ما يفعله في مواجهة الموقف. سوي أن يوجه بالقبض علي هؤلاء السماسرة. وكان هذا هو الإجراء السريع المتاح في تلك اللحظة. لحين دراسة الأمر من مختلف جوانبه.
وقد نشرت كل الصحف هذه الواقعة بالتفصيل في اليوم التالي "14 أكتوبر". وإن لم يتابع أحد بعدها ماذا حدث لها من توابع.
***
قبل ذلك بشهر أو أكثر قليلاً. اكتشفت وزارة التضامن الاجتماعي تلاعباً في كشوف المستحقين لمعاشات تكافل وكرامة وغيرها مما استحدثته الدولة من آليات ضمن شبكة الحماية الاجتماعية التي تقدمها لمن لا دخل أو مورد رزق ثابت لهم.
وتبين للوزارة أن الذين يقومون بهذا التلاعب. هم بعض موظفيها في بعض المحافظات. وأن هذه الكشوف تضم عشرات. بل مئات من غير المستحقين لهذه المعاشات ولا تنطبق عليهم شروط التمتع بها. وأن معظم هؤلاء. هم أقارب وجيران ومعارف هؤلاء الموظفين المتلاعبين.
وقد أحالت الوزارة المتورطين في هذه الوقائع إلي النيابة. وأوقفت يومها صرف جميع هذه المعاشات في المحافظات التي اكتشفت التلاعب فيها لحين مراجعة الموقف والإجراءات المتبعة. ونشرت جميع الصحف أيضاً هذه الوقائع بتفاصيلها كاملة.
***
هاتان الواقعتان تثيران من جديد قضية الدعم ومستحقيه. وهي قضية قديمة متجددة. بدأت مع بداية إقرار الدعم في مطلع ستينيات القرن الماضي ومازالت مستمرة حتي اليوم وإن أحاطت بها الآن ظروف موضوعية تجعل إعادة طرحها أكثر إلحاحاً.
فطوال عشرات السنين الماضية. كان مفهوم الدعم. عند الحديث عنه. ينصرف حصرياً إلي "الدعم السلعي" أي الفارق المالي الذي تتحمله الدولة نيابة عن المواطن محدود الدخل. بين السعر الحقيقي للسلعة. المقدر بناء علي عنصري تكلفة إنتاجها. وهامش الربح المستحق لمنتجها وموزعها. والسعر الذي تقدمه الدولة للمواطن مستحق الدعم. بما يتناسب مع دخله المحدود.
وكان مفهوم السلع المقصودة دائماً. ينصرف إلي السلع الغذائية الأساسية مثل الخبز والسكر وزيت الطعام "والشاي أحياناً" وهي السلع التي أنشئ من أجلها نظام البطاقات التموينية. كما أنشئت من أجلها أيضاً شبكة الجمعيات الاستهلاكية والفئوية.
وقد بذلت عشرات المحاولات خلال تلك السنين. سواء لتحديد "من" يستحق الدعم.. و"ماذا" يتم دعمه من السلع. و"كيف" يتم توصيل هذا الدعم لمستحقيه.. ورغم أن هذه المحاولات تمت بناء علي دراسات علمية وميدانية إلا أن الوصول إلي إجابات صحيحة ومكتملة عن هذه الأسئلة الثلاثة مازال بعيداً. رغم العملية الكبري التي تجري حالياً لتحديث نظام البطاقات التموينية. وتنقيتها من كل غير المستحقين. وميكنتها بما يكفل سد أكبر قدر من منافذ الفساد فيها.
***
المتغيرات الآن كثيرة فيما يتعلق بالدعم. وإذا أضيف إليها مثل واقعتي الإسكان الاجتماعي والمعاشات المستحدثة اللتين تم اكتشافهما. وغيرهما مما قد يوجد ولم يكتشف بعد أصبحنا أمام ملف بالغ الخطورة. ويحتاج حسماً سريعاً.. ومن هذه المتغيرات علي سبيل المثال:
1- تم توسيع دائرة السلع المدعومة. فلم تعد قاصرة فقط علي الخبز والسكر والزيت. بل انضمت إلي القائمة سلعا أخري. وكلما ارتفع سعر سلعة غذائية أو انخفض المعروض منها. ضغط الرأي العام مطالباً بضمها إلي البطاقات التموينية.
ومن هنا. فإن الوفر المالي الذي سيتحقق من تنقية وترشيد البطاقات التموينية. سوف يذهب في التوسع العددي في السلع المدرجة علي هذه البطاقات.. وبالتالي لن تستفيد ميزانية الدولة بهذا الوفر.
2- الدعم لم يعد غذائياً فقط. ولا عينياً.. بل تم التوسع فيه أيضاً.. والإسكان الاجتماعي علي سبيل المثال دليل علي الدعم غير الغذائي.. والمعاشات المستحدثة لمعدومي الدخل دليل علي الدعم النقدي.
3- التكلفة الباهظة والمتزايدة للدعم. أصبحت تشكل عبئاً ثقيلاً علي الموازنة العامة للدولة. وأحد أسباب عجزها. خاصة في اقتصاد يمر بمرحلة إصلاحات جذرية لا بديل عنها. ومجتمع يرتفع سقف طموحاته كل يوم مع كل إنجاز جديد يتحقق.
هذا يشكل نوعاً من الضغط الإضافي علي صاحب القرار. في ظل محدودية الموارد الذاتية. ومحاذير التوسع في الاقتراض الخارجي لغير المشروعات الاستثمارية. والإحساس في نفس الوقت بحق المواطن في التطلع إلي مستوي حياة أفضل.
4- واقعتا الإسكان الاجتماعي ومعاشات التضامن تشكلان مؤشراً خطيراً. وهو أن الفساد هنا ليس فساد الدولة.. فالدولة هنا دعمت إسكاناً اجتماعياً فاخراً لتقدمه لمحدودي الدخل. وقدمت دعماً نقدياً في صورة معاشات لمعدومي الدخل.. أي أنها أوفت بالتزاماتها الدستورية تجاه مواطنيها في هذا المجال.
وهو ليس فساد كبار تجار أو محتكرين أو رجال أعمال أو أغنياء بصفة عامة كما يحدث في سوق السلع مثلاً. أو في استفادة أصحاب فيلات وسيارات فارهة مثلاً بدعم تمويني أو بنزين مدعم كما كان يحدث.
الفساد هنا. للأسف. فساد أفراد ومجموعات لا تمت إلي هؤلاء جميعاً.. فما الذي يدفع مواطناً إلي التقدم لحجز وحدة في الإسكان الاجتماعي وهو لا يحتاجها. حتي لو كان مستحقاً لها؟! وما الذي يدفع موظفاً إلي تزوير أوراق لأقاربه وجيرانه ومعارفه تبيح لهم الاستيلاء علي معاشات تقدمها الدولة لأضعف فئاتها وأكثرها احتياجاً.
الدعم لم يعد رفاهية.. هذه ليست دعوة لإلغائه أو إعادة النظر فيه.. بل لضبطه ووضع كافة الضمانات التي تمنع تسربه إلي غير المستحقين الفعليين له.
لابد من مراجعة شروط استحقاق الدعم وضبطها.. لابد من مراجعة الامتيازات الممنوحة لبعض الجهات والعاملين فيها وترشيدها.. لابد من وضع قيود علي تصرف حاجز الإسكان المدعم في الوحدة السكنية لفترة زمنية محددة. سواء بالبيع أو التنازل أو تغيير الغرض منها.. لابد من مراجعة دورية. ولتكن مع بداية كل سنة مالية جديدة لكشوف من يصرفون المعاشات المستحدثة والتأكد من استحقاقهم لها بالفعل.. وهذا أضعف الإيمان.