المصريون
محمود سلطان
الدولة الدينيَّة.. تختلف المُسميات و"الفاشية" واحدة!!
من الصعب أن تجد الأعمال كاملة لـ"الحلاج" ـ المقتول عام 309 هـ في العراق ـ فالرجل وضع 49 مُؤلفًا، لم يبقَ منها إلا كتابه "الطواسين".. كان من الصعب أن يقبل سدنة التفسير الأيديولوجي للنص الديني، فكرة الاحتفاظ بأعمال عدوهم اللدود "الحلاج".. الذي حرَّر العقل من التسليم بالأيديولوجيا السُنيَّة، وأبدع لغة جديدة "قاموسًا صوفيًّا"؛ عوضًا عن عجز اللغة السائدة عن مساعدة الصوفية التي كانت قد بلغت ذروة تطورها التأملي في القرن العاشر الميلادي، في التعبير عن الوجد والأحوال والمقامات.

ولأن التاريخ تكتبه القوى المنتصرة، فإن تاريخ "الحلاج" كتبه أعداؤه وكتيبة القتلة "قضاة مالكيون وأحناف" الذين عذبوه وذبحوه وأحرقوا جثته ونثروها في نهر الفرات.. تأمل هنا وجه التطابق بين "الحلاج" في القرن العاشر، والصحفي السعودي "خاشقجي" في القرن الحادي والعشرين: قرار من أعلى سلطة بذبحه وإخفاء جثته (الحلاج أذيب تراب جثته في نهر الفرات.. وخاشقجي أذيبت جثته بحامض الهيدروفلوريك وتسييلها في شبكة مجاري مدينة إسطنبول).. إنه تراث الدولة الدينية القمعية تتوارثه الأجيال السلطوية العربية من جيل إلى جيل.

"الحلاج" قُتل وأُخفيت جثته بتهمة "إسقاط الدولة" وبغطاء ديني "الزندقة".. وكذلك خاشقجي قُتل وأُخفيت جثته بتهمة "معاداته للدولة".. وبغطاء ديني أيضًا "خروجه عن طاعة ولي الأمر!".

المشكلة التي ينبغي الانتباه إليها، أنَّ العقل السياسي الديني الفاشي الحالي، هو سليل الحاضنة الفقهية الفاشية التي وفَّرت الغطاء الديني للقمع طوال فترة حكم الدولتين الأمويَّة والعباسية.. إنها حلقات متصلة بعضها ببعض لم تحدث أية قطعية معرفية بين الماضي والحاضر.. فظلَّ الماضي محتفظًا بوصايته وهيمنته على ممارسات الحاضر.. على سبيل المثال.. لا يزال ابن تيمية الذي وُلد في الثلث الأخير من القرن الثالث عشر الميلادي أكبر مرجعية فقهية للإسلاميين الحاليين، بل ومبالغة منهم في توقيره وتعظيم منزلته العلمية أطلقوا عليه لقب "شيخ الإسلام".. ويبارك ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" ما حاق بـ"الحلاج" من مصير، لا بل إنه يرى أن "من اعتقد ما يعتقده الحلاج من المقالات التي قُتل الحلاج عليها فهو كافر مرتد باتفاق المسلمين، فإن المسلمين إنما قتلوه على الحلول والاتحاد، ونحو ذلك من مقالات أهل الزندقة والإلحاد، كقوله: أنا الله، وقوله: إله في السماء وإله في الأرض. وبالجملة، فلا خلاف بين الأمة أن من قال بحلول الله في البشر، واتحاده به، وأن البشر يكون إلهًا، وهذا من الآلهة، فهو كافر مباح الدم، وعلى هذا قُتل الحلاج".

ابن تيمية ـ هنا ـ يؤصل ويشرعن دينيًّا، إباحة قتل "المخالف".. وإذا كان "المخالف" في الماضي هو "الحلاج" برمزيته الدينية.. ففي الحاضر "المخالف" هو المعارض في رمزيته السياسية.. وتأملوا بيان الكنانة 1 وبيان الكنانة 2 اللذين أصدرهما "فقهاء" وعلماء دينيون متعاطفون مع جماعة الإخوان المسلمين، والذي أباح قتل كل من شارك في الإطاحة بالرئيس الإخواني محمد مرسي من سياسيين وغيرهم!! لاعتقادهم بأنهم شاركوا في إسقاط حلم تأسيس دولة الخلافة المعاصرة.

إنها تجليات حضور الدولة الدينيَّة القديمة بكل فاشيتها داخل العقل الإسلاموي المعاصر سواء كان داخل السلطة أو خارجها.

وللحديث بقية إن شاء الله تعالى
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف