الوطن
د. محمود خليل
شعب غير مؤهل للديمقراطية
حمل الشيخ الإمام محمد عبده راية التنوير بعد رفاعة الطهطاوى. وقد مر الرجل قبل التفرغ للتربية وصناعة التنوير برحلة ثورية شارك خلالها فى فعاليات الثورة العرابية، وكان واحداً من أهم رموزها، وبعد إخفاقها واحتلال الإنجليز لمصر تاب وأناب ولعن السياسة وساس ويسوس، وبدأ يؤمن بنهج الإصلاح كبديل للنهج الثورى. واجه محمد عبده الكثير من أفكار الدجل والخرافات والفهوم الخاطئة للدين الموروثة عن العصر المملوكى. وقدم رؤية جديدة وتفسيراً مختلفاً للنص القرآنى يواكب ظروف ومقتضيات العصر، ونادى بتربية الشعب وتعليمه بهدف إعادة تشكيل رؤيته وبنيته الثقافية بشكل يستجيب للتحديات التى تواجهها الأمة. لم يعتمد الشيخ محمد عبده على النفى الكامل للموروث، لكنه نبه إلى أهمية تجديد أساليب فهم وأسس تعامل المسلم مع النص الدينى، وآمن بالعقل كأداة لفهم النص المقدس، حتى ولو تناقضت أحكامه واستخلاصاته وقراءاته مع الفهم الموروث.

آمن محمد عبده بأن الإصلاح يتأتى من خلال نشر التعليم الصحيح بين أفراد الشعب، ومن استخدام الصحافة فى محاربة الفساد، وتنبيه الوعى القومى، والتدرج فى الحكم النيابى. وبمناسبة الحديث عن الحكم النيابى كان للإمام موقف متشدد من هذه المسألة، يبدو أنه تأثر فيه بتجربته المريرة مع العرابيين الذين ارتأوا فى لحظة التخلص من النظام الملكى وتأسيس دولة جمهورية، فقد رأى أن تعليم الأمة وتربيتها وإصلاح أحوالها هو المقدمة الكبرى لنشأة الحياة النيابية التى يصبح الشعب فيها صاحب السلطة. وقال فى هذا الصدد: «إننا نستحسن حالة الحكومة الجمهورية فى أمريكا، واعتدال أحكامها، والحرية التامة فى الانتخابات العمومية فى رؤساء جمهورياتها، وأعضاء نوابها ومجالسها، وما شاكل ذلك، ونعرف مقدار السعادة التى نالها الأهالى من تلك الحالة، وتتشوق النفوس الحرة أن تكون على مثل هذه الحالة الجليلة، لكننا لا نستحسن أن تكون تلك الحالة بعينها لأفغانستان -مثلاً- حال كونها على ما نعهد من الخشونة فإنه لو فوض أمر المصالح إلى رأى الأهالى، لرأيت كل شخص وحده له مصلحة خاصة لا يرى سواها، فلا يمكن الاتفاق على نظام عام. ولو طلب منهم أن ينتخبوا مائة نائب مثلاً لرأيت كل شخص ينتخب صاحباً له أو نسيباً أو قريباً، فربما ينتخبون آلافاً مؤلفة، ثم لا ينتهى الانتخاب إلى المرغوب أصلاً».

هذه الرؤية التى تبناها محمد عبده للحياة النيابية والدستورية قد يراها البعض «نخبوية»، وقد يصفها آخرون بـ«الواقعية». وفى المجمل ليس هناك خلاف على أن الأداء الديمقراطى يقتضى مستوى معيناً من النضج من جانب الشعب حتى يستطيع ممارسته والمشاركة فى فعالياته. وليس هناك شك فى أن فكرة الديمقراطية تمثل معولاً مهماً من معاول هدم الفكر المملوكى وكشف أفكاره المزيفة حول الطاعة غير المشروطة للوالى أو السلطان، بالإضافة إلى أثرها المثمر فى تكريس عقلانية التفكير بما يبعد العقل عن الدجل والخرافة، لكن يبقى أن الإمام محمد عبده وغيره من التنويريين لم يفلحوا فى إحداث التحول الثقافى المطلوب فى الشعب، لأسباب خاصة بهم وأخرى خارجة عن إرادتهم. واللافت أن النخبة المثقفة لم تزل تردد هذه الأفكار حتى اليوم وتنعى على الشعب عدم أهليته للحياة الديمقراطية، وكأن العقل المصرى أدمن وراثة الأفكار دون اختبار لها أو بحث فى خلفياتها وإيجاد الحلول لها.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف