القاعدة المستقرة، تقول إن التاريخ يكتبه المنتصرون، ولأن المذهب الأشعري (القدري/الجبري) هو الذي استولى على العقل المُسلم، منذ الخليفة العباسي المتوكل وتصفية الوجود المعتزلي حتى الآن.. فإن غالبية التراث التنويري الإسلامي، قد تم طمسه أو التآمر عليه وإخفائه.. ولعلنا نتساءل ـ مثلا ـ أين مؤلفات غيلان الدمشقي؟! التي بلغت كما يقول ابن النديم في "الفهرست" ألفي صفحة.. كلها قد أخفيت أو ضاعت!
وفي السياق، فإن بعض المُعقبين على مقالي، احتجّوا بالمناظرة التي جرت بين غيلان الدمشقي وبين "إياس" بن معاوية بن مرة.. وقالوا إن الأخير "قهره" حتى أظهر التوبة.. فإن هذه المناظرة تلاعب فيها المؤرخون "القدريون" مثل ابن كثير والذهبي وهما شافعيان "قدريان": قال "الذهبي" مثلاً عن غيلان الدمشقي "المقتول في القدر ضال مسكين".. وفي المناظرة التي أشرت إليها آنفًا، فإن ابن كثير في "البداية والنهاية" يستدعي لغة ومفردات تُعلي من قدر "إياس" وتحط من منزلة "غيلان".. فيصف الأول بـ"الذكي" ليستدعي القارئ تلقائيًا أن الآخر "غبي".. ثم بالغ في وصف إياس: "وكان عاقلاً من الرجال فطنًا. وزاد العجلي: وكان فقيهًا عفيفًا".. رغم أنه نقل بعد ذلك واقعة لـ إياس، تجعلنا نقف كثيرًا عند "عفته" التي وردت في نص ابن كثير.. يقول الأخير عنه: "دخل على إياس ثلاث نسوة، فلما رآهن قال: أما إحداهن فمُرضع، والأخرى بكر، والأخرى ثيب. فقيل له: بم علمت هذا؟ فقال: أما المُرضع فلما قعدت أمسكت ثديها بيدها، وأما البكر فلما دخلت لم تلتفت إلى أحد، وأما الثيب فلما دخلت نظرت ورمت بعينيها" انتهى.
الواقعة ـ هنا ـ تنقض نزعة الورع التي ينبغي أن يكون عليها رجال الدين "غض البصر".. ويفهم من النص أن إياس تفحص النسوة الثلاثة جيدًا.. بمن فيهن التي أمسكت ثدييها! فأين العفة المزعومة هنا.. إنه المؤرخ حين يستسلم لشهوة التحيز الأيديولوجي والمذهبي.
المهم ـ هنا ـ أن التلاعب بالمناظرة واستقطاعها من سياقها "والضحك" على القارئ كانت حاضرة بشكل فج.. يقول ابن كثير: "اكترى إياس بن معاوية من الشام قاصدًا الحج، فركب معه في المحمل غيلان القدري ولا يعرف أحدهما صاحبه، فمكثا ثلاثا لا يكلم أحدهما صاحبه، فلما كان بعد ثلاث تحادثا فتعارفا، وتعجب كل واحد منهما من اجتماعه بصاحبه، لمباينة ما بينهما في الاعتقاد في القدر، فقال له إياس: هؤلاء أهل الجنة يقولون حين يدخلون الجنة: الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله [الأعراف: 43] ويقول أهل النار: [ص: 121] ربنا غلبت علينا شقوتنا [المؤمنون: 106] وتقول الملائكة: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا [البقرة: 32] ثم ذكر له من أشعار العرب وأمثال العجم ما فيه إثبات القدر، ثم اجتمع مرة أخرى إياس وغيلان عند عمر بن عبد العزيز، فناظر بينهما، فقهره إياس وما زال يحصره في الكلام حتى اعترف غيلان بالعجز وأظهر التوبة، فدعا عليه عمر بن عبد العزيز إن كان كاذبًا، فاستجاب الله منه، فأمكن من غيلان فقتل وصلب بعد ذلك. ولله الحمد والمنة".
ابن كثير ينقل هنا حجة "إياس" فقط.. ولا ينقل رد غيلان الدمشقي.. واكتفي بقوله إن الأول هزمه وقهره!!
ثم لم يخف ابن كثير كراهيته لغيلان.. ففي نهاية النص يحمد الله على قتل غيلان وصلبه بشكل وحشي لا يقره دين ولا أخلاق ولا إنسانية.. وللحديث بقية إن شاء الله تعالى..