الوطن
ياسر عبد العزيز
الإعلام.. صناعة ثقيلة
على هامش انشغال الجمهور المصرى بمتابعة مباريات بطولة الأمم الأفريقية التى تجرى منافساتها راهناً، اضطر بعض زملائنا الإعلاميين إلى حض المشاهدين مباشرة على عدم مشاهدة مباريات البطولة على شبكة «بى إن سبورت» القطرية، ومتابعة تلك المسابقة المهمة عبر شاشة رياضية وطنية.

نحن نعرف أن قطر تشن حملات شرسة على مصر منذ سنوات طويلة، ولدينا العديد من الأدلة التى تثبت أنها ساندت الإرهاب وموّلته، وقامت بأنشطة سلبية استهدفت الخصم من قدراتنا الاستراتيجية والإضرار بمصالحنا. ومع ذلك، فقد وجدنا أن جمهورنا الكروى، الذى يُعد بعشرات الملايين، بات مضطراً إلى استخدام خدمتها الرياضية الفضائية، بما يستتبعه ذلك من تمويلها وتعزيز تمركزها.

لن نناقش فى هذه المساحة صحة الأساليب التى لجأ إليها بعض زملائنا فى محاولتهم لتنبيه الجمهور إلى تلك المفارقة الخطيرة: «قطر تشن هجماتها ضدنا، ونحن ندعم ذراعها الإعلامية»، لكننا سنركز على الأسباب التى جعلت قطر قادرة على أن تكيد لنا وتحصل على ولاء مشاهدينا فى آن واحد، وعندما نبدأ فى استنتاج تلك الأسباب، سنكون قد بدأنا الحديث عن ما يمكن أن نسميه «الصناعة الثقيلة» فى مجال الإعلام.

ثمة توافق كبير على أن الإعلام يلعب الدور الأكثر أهمية فى تشكيل تصورات الجمهور العربى عن الأحداث الحيوية التى تقع فى إطار اهتمامه. وقد واكبت التحولات السياسية الحادة التى تشهدها المنطقة العربية منذ العام 2011، زيادة مطردة فى تأثير الرأى العام، وباتت آراء الجمهور ومواقفه، التى يطور معظمها من خلال تعرضه للرسائل الإعلامية، عاملاً مؤثراً فى صياغة التطورات السياسية، والضغط على صانعى القرار، أو مساندتهم ودعمهم.

لقد أدركت الدول العربية الرئيسية هذا التأثير المتصاعد للإعلام قبل عقود عديدة، ليس فقط فى بيئة قرارها الداخلى، ولكن أيضاً على النطاقين الإقليمى والعالمى.

اكتشفت مصر هذا الأمر المهم مبكراً جداً. لا يمكن أن نتجاهل مدى تأثير إذاعة «صوت العرب» المصرية فى السياسات الإقليمية بل والمحلية فى المنطقة. انطلقت هذه الإذاعة بموازاة صعود الدور المصرى فى الإقليم فى خمسينات القرن الفائت وستيناته، وكانت مرتكزاً حيوياً لذلك الدور وعامل تأثير لا يضاهى على مدى نحو عقدين.

لاحقاً، طورت مصر القمر الاصطناعى «نايل سات»، وهكذا فعلت أيضاً السعودية؛ إذ طورت «عرب سات»، قبل أن تلحق بهما قطر، لتطلق قمرها «سهيل سات». إلى جانب ذلك، استثمرت السعودية فى منظومة ضخمة من الشبكات التليفزيونية، مثل «إيه آر تى»، و«روتانا»، ثم «العربية»، إضافة إلى صحيفتين نافذتين: «الحياة» و«الشرق الأوسط»، ومنصة رقمية مميزة «العربية نت».

أما قطر، فقد راحت تركز مجهودها فى شبكة «الجزيرة»، وهى الشبكة التى تعملقت وانتشرت، وتنوعت أذرعها، وباتت لاعباً أساسياً فى صياغة سياسات المنطقة، وليس توجهاتها ووعيها العام فقط.

تبدلت المواضع مع الزمن، فرغم امتلاك مصر وكالة أنباء إقليمية مهمة (أ ش أ)، ومدينة إنتاج إعلامى مميزة، ومنظومة قنوات فضائية واسعة، تضم أكثر من 65 قناة، وأكثر من 250 صحيفة مطبوعة، منها 55 صحيفة مملوكة للدولة، ونحو 500 موقع إلكترونى إخبارى، فإنها باتت عزلاء من أى ذراع إعلامية إقليمية نافذة.

وبالتالى، فقد خاضت مصر معارك سياسية خطيرة فى السنوات الأخيرة من دون أدوات إعلامية إقليمية أو دولية، وهو الأمر الذى انعكس سلباً على الصورة الذهنية للدولة والحكومة، وحجّم قدرات نظام ما بعد 30 يونيو 2013، ووضع الكثير من القيود على سلوكه.

ولولا أن الدولة المصرية بعد 30 يونيو، تلقت مساندة حيوية وفاعلة ومخلصة من تعبيرات إعلامية إقليمية لدول صديقة، لكانت قدرتها على مجابهة التحديات التى واجهتها أقل بوضوح.

نجحت دولة الإمارات العربية فى تطوير بنيتها الإعلامية بشكل ملموس عندما أطلقت ذراعاً إخبارية إقليمية فعالة هى «سكاى نيوز عربية»، وقد كان هذا التطور منطلقاً من إحساس الإمارات بأن القضايا الإقليمية المهمة لا تُقدم بالشكل الذى يناسب وجهة نظرها فى بعض الأحيان.

ورغم أن قطر وصلت حديثاً إلى الصراع على الفضاء الذى يستهدفه الإعلام فى المنطقة، فإنها أظهرت مهارة وحنكة ودأباً لا يحده حد.

لا تمتلك قطر شبكة «الجزيرة» فقط، فبعدما نوعت منصات تلك الشبكة بين الإخبارى والثقافى والوثائقى والترفيهى، وأطلقت النسخ المحلية تحت اسم «مباشر»، لتستهدف دولاً ومجتمعات معينة، وعززت نسختها الإنجليزية لتصبح رقماً مهماً فى الفضاء الإخبارى الدولى، راحت تطلق تعبيرات إعلامية هامشية وموازية عبر التمويل أو الدعم المباشر وغير المباشر، مثل تليفزيون العربى، وصحيفة «العربى الجديد»، وغيرها من المنصات الإعلامية الإلكترونية.

فهمت قطر فكرة الصناعة الثقيلة فى المجال الإعلامى، فأصرت على إطلاق قمرها الاصطناعى «سهيل».. عبر هذا القمر، لن تكون الدوحة مضطرة للجوء إلى «نايل سات» و«عرب سات» لبث رسائلها فى المنطقة.

نحن نعرف الآن أن قطر عندما قررت إطلاق «سهيل»، قبل أكثر من عشر سنوات، كانت تدرك أنها ستقوم بأدوار إقليمية عدائية وتخريبية، وأنها ربما تخضع للحصار والعزل، لذلك قررت أن تكون «عصمة البث فى يدها وليست فى يد أعدائها».

يُعد ذلك تجسيداً واضحاً لفكرة الصناعة الثقيلة.. إذ تمتلك قطر القمر الاصطناعى الذى لن يوفر لها فقط إيصال رسائلها، ولكنه سيقدم مزايا فريدة لهيئات البث فى المنطقة، مما يدفعها إلى التعاقد معه، والتوافق مع معاييره وشروطه، وبعضها سياسى بطبيعة الحال، وتم تصميمه لخدمة المشروع القطرى.

«بى إن سبورت» صناعة ثقيلة فى مجال الإعلام، لأن قطر بواسطتها اشترت حقوقاً حصرية، وعندما سيحب المواطن السعودى أو المصرى أو البحرينى أن يشاهد مباريات الدورى الإنجليزى، فسيضطر آسفاً للجوء إليها. حقوق البث الحصرية للبطولات العالمية المرموقة تدخل فى باب الصناعة الثقيلة.

سيمكننا بالطبع أن نحض جمهورنا على هجر «بى إن سبورت» المملوكة للدولة القطرية المعادية لنا ومشاهدة مباريات البطولة الأفريقية أو الدورى العام المصرى على قناة مصرية وطنية، وربما ننجح فى ذلك، لكن ماذا سيحدث عندما يتعلق الأمر بمشاهدة مباريات كأس العالم أو البطولات الأوروبية؟

علينا أن نركز فى مجال الصناعة الإعلامية الثقيلة.. الأقمار، والحقوق الحصرية، ومزودى الخدمات، والمنصات الضخمة، والشبكات العملاقة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف