فى إفطار العائلة المصرية الأخير فى شهر رمضان الماضى دعا الرئيس السيسى المفكرين والمثقفين المصريين، لبحث كيفية تعزيز مكانة مصر، وحتى هذه اللحظة لم أصادف بحثاً أو دراسة مكتوبة تتفق مع دعوة الرئيس، الذى يضع ذلك هدفاً استراتيجياً يسير فى اتجاهه فى كل تصرفاته منذ توليه مسئولية الحكم. الرئيس السيسى يدرك تماماً أن التأثير الأقوى والأهم لمصر فى محيطها الإقليمى ينطلق فى البداية من خلال قوتها الناعمة بمفهومها الشامل، الذى يشمل الثقافة والفنون والرياضة والدبلوماسية، وذلك دون إغفال المؤشرات الضرورية للحفاظ على مكانة الدولة فى هذا العالم، سواء كانت مؤشرات اقتصادية أو عسكرية.
فى منتدى شباب العالم ذلك النموذج السياسى البراق غير المسبوق الذى ابتكرته مصر، والذى تابعنا دورته الثالثة خلال هذا الأسبوع، لاحظنا مدى تفاعل كل المشاركين شباباً وكبار مسئولين من مختلف أنحاء العالم مع ما تطرحه مصر من أفكار ورؤى سياسية واقتصادية وتنموية طموحة، من شأنها حال الأخذ بها، تغيير واقع هذا العالم المتخم بالأزمات إلى الأفضل. هذا المنتدى يكشف إلى أى مدى تتمسك مصر بضرورة استعادتها لمكانتها ودورها التاريخى، خاصة فى سنوات الستينات من القرن الماضى. وهنا أتذكر أن مدينة البعوث الإسلامية التى تأسست عام 1954 لاستضافة طلاب الدول الإسلامية الدارسين بالأزهر الشريف، خرج منها من أصبحوا رؤساء دول وحكومات ووزراء فى بلادهم وكانوا أقوى ظهير لنا فى المحافل والمؤسسات الأممية، وبالقياس لنا أن نتخيل المستقبل السياسى للشباب المشاركين فى دورات المنتدى المتعاقبة مع الأخذ فى الاعتبار أنهم من كل دول العالم وليس الدول الإسلامية فقط. هذا المنتدى بلا شك «جون» حاسم من تلك «الأجوان» التى اعتاد السيسى إحرازها. تأثير مصر ومكانتها فى محيطها الإقليمى، لمن يريد التيقن منه، يلمسه فى هتاف الشعب العربى الليبى فى العاصمة طرابلس تأييداً لقوات الجيش الوطنى فى مواجهة ميليشيات السراج الإرهابية. هتف الليبيون للرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى.. (يقطع لإخوان وطاريهم، نبو سيسى كى سيسيهم)
وبالترجمة للهجة المصرية فإن الهتاف يعنى (قطيعة تقطع الإخوان ومن يذكر اسمهم، ومن يدعمهم، نريد سيسى مثل سيسيهم.. أى زعيماً مثل الرئيس السيسى).. الهتاف مسجل صوتاً وصورة، وهو وثيقة تاريخية تسجل للحظة فارقة فى العلاقة بين مصر وليبيا، ليس على المستوى الرسمى فقط، وإنما على مستوى العلاقة بين شعبين شقيقين يفصل بينهما خط حدودى افتراضى، وبوعى لافت أشار الرئيس السيسى فى كلمته خلال جلسة تعزيز التعاون بين دول المتوسط بمنتدى شباب العالم، إلى رفضه لتدخل مصر عسكرياً فى ليبيا رغم قدرتها على ذلك، حتى لا يترك ذلك أثراً سيئاً فى نفوس الشعب الليبى.
هنا مصر بقوتها ومكانتها -ووعيها- تركت المهمة للجيش الوطنى الليبى، وإن لم تغفل عن دعمه سياسياً لآخر مدى. مصر كدولة محورية فى المنطقة، لا تملك ترف الانكفاء على ذاتها، ووزنها النسبى يتناسب طردياً مع الدور الذى يمكن أن تلعبه، خاصة على الساحة الإقليمية والعالمية، ولو اكتفت -فرضاً- بالتركيز على الداخل فقط ستفقد حتما اعتراف العالم بأهميتها.
فى أدبيات العلاقات الدولية هناك ما يعرف بـ«الارتباط الانتقائى» أى انتقاء القضايا المرتبطة مباشرة بالمصلحة الوطنية، وتركيز الاهتمام عليها، وإعطاؤها الأولوية، وهذا ما تدركه مصر جيداً، ويبلوره الرئيس السيسى.
أخيراً ليس أفضل من الختام بمقولة عميد الأدب العربى العظيم طه حسين «مصر خليقة أن يُحسب لها حساب حين ترضى، وأن يُحسب لها حساب حين تغضب، وأن يُحسب لها حساب حين تريد».