تلاحقت مشاهد العناد والإنكار، والسخرية والاستهزاء، حتى لا تراعى قريش ومن والاها حرمة البيت العتيق، فيروى الرواة أن قريشاً كانت ضاربة فى فسادها، ماضية على عادتها الموروثة عن الآباء والأجداد.. يتهاترون تهاترات عجيبة فى القداسة التى فهموها بكفرهم للأصنام المرصوصة فى البيت العتيق، فلا يطوفون بالبيت إلا عراة.. فيما عدا الحُمّس (قريش وما والت).. يتأولون ذلك بأنهم لا يطوفون فى ثياب عصوا الله فيها.. لا يجدون فى هذا العُرْى ما يخجل، ويحسبون هذا الفحش عبادة.. وفى ذلك تنزلت الآيات 26 - 33 من سورة الأعراف تنهى عن هذه الفواحش!
وتأبى قريش إلا أن تمضى فى عنادها وسوء مكابرتها.. وتأبى إلا أن تعارض عبادة محمد وصحبه وطوافهم بالبيت العتيق، بطواف عابث ماجن، فتدفع الصبية والسفهاء إلى معارضة طواف المسلمين بطواف عابث هازئ يصفرون فيه ويصفقون، ويضعون خدودهم على الأرض مستهزئين بالمسلمين.. لا يقصدون من هذا الطواف الماجن عبادةً ولا ضراعةً ولا ابتهالاً، وإنما هو العناد والصد السفيه عن سبيل الله!
وفى أحد الأيام، يعترضه (صلى الله عليه وسلم) وهو ماضٍ إلى داره، بعض رؤوس قريش وسفهائها، فيمعنون فى عنادهم ويسألونه ساخرين مستهزئين: «يا محمد، واللات والعزى لا نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند ربك ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله وأنك رسوله كما تقول!»..
بيد أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لا يبالى بهم، ولا يلتفت إلى ترهاتهم، ويمضى إلى سبيله وهو يقول: «إن ربى غنى عن العالمين».. وبعد يوم أو بعض يوم، ينزل عليه الروح الأمين، فيوحى إليه من أمر ربه: «وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِى قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ * وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِىَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ * وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئونَ* قُلْ سِيرُواْ فِى الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» (الأنعام 7 - 11).
هذا وبرغم مكائد قريش، وملاحقتها لمحمد (صلى الله عليه وسلم) بين الحجيج، وتعقب أبى لهب وأبى جهل له بما ألمحنا بطرف منه، لاقت دعوته (عليه السلام) قبولاً بين بعض القبائل العربية التى تفد إلى مكة فى موسم الحج، برغم سفاهات وسخريات قريش.. ويكاد لا يمضى يوم، إلا ويرى المكيون محمداً (صلى الله عليه وسلم) ماضياً بين الدور، منادياً فى أهلها: «يا أيها الناس، هلموا إلى الله.. إن الله يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً».. بينما يلاحقه أبولهب وأبوجهل معاندين يناديان فى الناس من ورائه: «إن هذا يأمركم أن تتركوا دين آبائكم، فلا تسمعوا إليه!!».
وبينما عليه الصلاة والسلام يرنو إلى يثرب، تهب أنسام منها فى موسم الحجيج، فيتناهى إليه أن وفداً من الأوس قد نزل مكة، فيطير عليه السلام إليهم حاملاً دعوة ربه، فيقبل البعض، ويتحفظ البعض، وينصرف الأوسيون إلى يثرب على موعد للقاء فى العام القابل، بينما قريش لا تنى ولا تهدأ، وتحاول استدراج المسلمين إلى التشاتم والسباب.. ولا يدعون وسيلة للاستفزاز إلا سلكوها، واشتط بعضهم فطلب إلى محمد (صلى الله عليه وسلم) أن يجعل لهم من الصفا ذهباً، ويقسمون إنه إذا فعل ذلك صدقوه واتبعوه، فتنزل الآيات من سورة الأنعام تدعوه (صلى الله عليه وسلم) أن يعرض عن المشركين ويتبع ما يوحى إليه، وتدعو المسلمين إلى عدم مجاراة الكفار فى السباب، وتصرفهم عن استفزازات المشركين.. تقول الآيات للنبى (صلى الله عليه وسلم): «اتَّبِعْ مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ * وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ» (الأنعام 106 - 111).
لم يتورع الكفار عن أى نقيصة، واستباحوا فى عنادهم أن يجدفوا فى حق الذات الإلهية، فيروى الرواة أن أبا بكر وهو خارج من الكعبة لاقاه بعض رؤوس قريش، واعترضوه مستخفين، يقولون له: «أما يعلم صاحبك أن الملائكة بنات الله؟!»، ولكن أبا بكر يرد استهزاءهم بسؤال صافع، فيقول لهم معرضاً بجهالتهم: «فمن أمهاتهن؟!»، فيسقط فى أيدى الطواغيت، ويعتريهم الوجوم، فلا يجدون ما يقولونه!
فى ذلك نزلت الآيات من سورة الصافات تقول معرضةً بهذا السفه والتطاول عناداً وجهلاً على الذات الإلهية، فيقول عز من قائل: «أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ * أَلا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ* أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلا تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ» (الصافات 150 - 159).
ومن فرط العناد الذى يورِّث المزيد من الكفر، جعل القرشيون يبدّلون فى أحجارهم التى يعبدون كأنهم يبدّلون ملابسهم.. يتبع كل منهم هواه.. لا يهوى الواحد منهم شيئاً إلا ركبه، لأنهم بعنادهم وكفرهم لا يبصرون.. ترى من ظلَّ يعبد العزى وهى حجر أبيض لا يكاد يقع على حجر آخر يستحسنه إلا ويغرق فى عبادة الحجر الجديد الذى صادف هواه.. لا يرى الحارث بن قيس السهمى، أحد كبار المستهزئين المعاندين، لا يرى ما فى ذلك من بعد مبعد مغرق فى الجهالة، بينما ينظر المسلمون فى عجب إلى هذه العقول الضامرة، وعدم التفاتها إلى ما هى فيه بعنادها من تفاهة وضلالة.. ينتقى ويبدل فى الأحجار التى يعبدها ما يشاء وفق هواه!! ويتنزل جبريل، عليه السلام، على النبى (صلى الله عليه وسلم) فيوحى إليه من كلمات ربه: «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ» (الجاثية 23).
وإذ استدار العام على الحج السابق، وأقبل موسم الحج الجديد.. تتناهى الأنباء إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) بقدوم بعض من أنصار يثرب.. يوافيهم عليه الصلاة والسلام عند العقبة.. بينهم الستة الذين لقوه فى العام السابق: أبوأمامة أسعد بن زرارة، وعوف بن الحارث، وقطبة بن عامر بن حديدة، وعقبة بن عامر، وجابر بن عبدالله، ورافع بن مالك.. أتوا يحملون بشارة تفشى الإسلام فى يثرب.. قد أقبل معهم لعامهم هذا سبعة آخرون.. من الخزرج: معاذ بن الحارث بن عفراء، نسبة إلى أمه عفراء الشريفة الخزرجية الطاهرة، وذكوان بن عبد قيس الزُرقى، وعبادة بن الصامت، وأبوعبدالرحمن يزيد بن ثعلبة، والعباس بن عُبادة بن نَضْلة، ومن الأوس: أبوالهيثم مالك بن التيْهان وعويم بن ساعدة.