بوابة الشروق
مصطفى كامل السيد
هابرماس والحديث عن الشأن العام
يورجن هابرماس الذى تجدون اسمه فى عنوان هذا المقال هو من أبرز الفلاسفة المعاصرين، ورغم بلوغه التسعين من العمر. إلا أن القراء الألمان مازالوا يجدونه مشاركا نشطا فى كل القضايا العامة التى تهم مجتمعهم، بل ويجد قراؤه الكثيرون خارج ألمانيا فى كتاباته زادا ثمينا للفكر، ونظرة ناقدة لما يشغل الإنسانية فى العصر الحديث. لا أظن أنه كتب عن مصر، وصلته بها ربما لا تتعدى زيارة خاطفة لها فى أواخر ثمانينيات القرن الماضى بدعوة من الجامعة الأمريكية بالقاهرة، ألقى خلالها ثلاث محاضرات فى مبناها القديم بوسط القاهرة، استمع إليه فيها عدد من أبرز المثقفين المصريين، فى قاعة كانت تعج بالحضور، ثمن ضئيل مقابل التمتع بالمشاهدة والإنصات لهذا العقل الفريد الفذ الذى جال فى مجالات عديدة مثل اللغة والتاريخ الاجتماعى ونظرية المعرفة ومستقبل الحداثة، فضلا عن مفهوم خاص للمجال العام. وأذكر أن المرحوم الأستاذ محمد حسنين هيكل كان فى مقدمة الحضور.
قفز اسم هابرماس إلى ذهنى فجأة وأنا أتابع بدهشة تلك الندوات التى عقدتها ثلاث من دور الصحف المصرية وبدعوة من الدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف لمناقشة ما سمى بضوابط الحديث فى الشأن العام، بل لقد كان عنوان الندوة التى عقدت فى واحدة منها هو «الشأن العام والأمن القومى المصرى»، ويبدو أن الانزعاج من ترك الشأن العام هكذا بدون ضوابط قد امتد إلى النطاق العربى خارج مصر، فقد تبنى المجلس التنفيذى لوزراء الأوقاف والشئون الإسلامية فى اجتماعه بعمان فى ١٢ ديسمبر، وبالإجماع، مقترح وزير الأوقاف المصرى بشأن ضوابط الحديث فى الشأن العام، ووافق المشتركون على إدراج هذا الموضوع ضمن أعمال المؤتمر العام لوزراء الأوقاف والشئون الإسلامية المزمع عقده بالمملكة العربية السعودية. وتكشف التصريحات التى أدلى بها المشاركون فى هذه الندوات عن موقفهم من الحديث فى الشأن العام، فقد ذكر السيد الدكتور وزير الأوقاف فى ندوة صحيفة الأهرام أن قضية الشأن العام ليست بالمحظور المطلق ولا المفتوح المطلق، فالمتحدث فى الشأن العام لابد أن يكون متخصصا، وأضاف الدكتور شوقى علام مفتى الجمهورية فى المؤتمر الذى عقدته دار أخبار اليوم فى ٢٥ نوفمبر أن الشأن العام لم يعد مجالا لأى إنسان للتحدث فيه، وأن ثقافة البناء تتبع عدة اتجاهات، أهمها مراعاة التخصص الدقيق، لأن عصر العموميات وأننا نعرف كل شىء ولى وانتهى. وأضاف مشارك آخر ينتمى إلى وزارة مهمة، أن المتحدث فى الشأن العام يجب أن يكون منتميا إلى مؤسسة، وأن يقتصر حديثه على هذه المؤسسة وحدها.
أسباب الدهشة من إثارة موضوع الحديث فى الشأن العام:
صحيح أن الانزعاج من مناقشة الشأن العام أصبح ظاهرة عالمية، نجد بعض تجلياته فى تصريحات دونالد ترامب عن الأخبار المفبركة فى الصحف الأمريكية ذات المصداقية، وفيما اتخذه حكام آخرون من إجراءات قيدت بل وألغت حرية الصحافة والقنوات التلفزيونية ووضعت الصحفيين فى السجون أو حتى دبرت اغتيال بعضهم، مثلما جرى فى تركيا وروسيا ومالطة.
ومع ذلك فإن فى سلسلة الندوات التى عقدتها بعض الدور الصحفية المصرية وقرارات عمان ما يثير الدهشة بل والقلق، وذلك للأسباب التالية:
أولا: أن أيا من المشاركين فى هذه الندوات والفاعليات لم يذكر إطلاقا مسألة الحق فى الرأى والتعبير. وهى الصياغة الصحيحة للحديث فى الشأن العام. ولاشك أن التقرير الذى قدمته الحكومة المصرية إلى مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة قد أشاد بحرية الرأى والتعبير فى مصر، وتصدى بضراوة لكل القائلين بأن هذه الحقوق تتعرض للانتهاك فى مصر، ووفد الحكومة المصرية فى اجتماعات المجلس لم يفعل ذلك لأن ممارسة هذه الحقوق هى منة من الحكومة المصرية على شعبها، ولكن لأنها ملتزمة دستوريا وأمام المجتمع الدولى بحمايتها. دستورها ينص عليها، كما أن الحكومة المصرية قد وقعت على العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية فى سنة ١٩٦٧ وصدقت عليه فى سنة ١٩٨٢. دستور جمهورية مصر العربية ينص على هذه الحقوق فى المواد ٦٥ الخاصة بحق الرأى والتعبير و٧٠ التى تؤكد على حرية الصحافة وأدوات الإعلام و٧١ التى تحظر فرض الرقابة عليها و٧٢ التى تلزم الدولة بضمان استقلال المؤسسات الصحفية ووسائل الإعلام المملوكة لها، وبما يكفل حيادها وتعبيرها عن كل الآراء والاتجاهات السياسية والفكرية والمصالح الاجتماعية، ويضمن المساواة وتكافؤ الفرص فى مخاطبة الرأى العام. كما نص على هذه الحقوق الإعلان العالمى لحقوق الإنسان فى المادة ١٩ والعهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية فى المادتين ١٩ و٢٠.
والجدير بالذكر أن الدستور المصرى أقر هذه الحقوق لكل المواطنين دون تمييز، ولم يقصرها على من يسمون بالمتخصصين كل فى مجاله، وفى كل من الإعلان العالمى والعهد الدولى هى حقوق للإنسان، فى كل المجتمعات، بدون تخصيص لمستوى تعليم هذا الإنسان أو نوع تعليمه أو مجال عمله.
ثانيا: أن هذه الحقوق تخضع بالفعل لبعض القيود بموجب العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية، وتقابلها التزامات تستدعى حظر أنواع منها، فهناك قيدان على ممارسة الحق فى التعبير: أن يكون القيد منصوصا عليه فى القانون، وأن يكون ضروريا لاحترام حقوق الآخرين وسمعتهم، ولحماية الأمن القومى أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة، كما يقر هذا العهد حظر التعبير عن الآراء التى تتضمن دعاية للحرب أو دعوة للكراهية القومية أو العنصرية أو تشكل تحريضا على التمييز أو العداوة أو العنف. ومن ثم فإذا كان السيد وزير الأوقاف يعتبر أن الحديث فى الشأن العام ليس مفتوحا تماما، فهو باعتباره ممارسة للحق فى التعبير، هو بالفعل محكوم بضوابط، ولكنها لا تستثنى أحدا من ممارسته طالما التزم بالضوابط الواردة فى المواثيق الدولية التى صادقت عليها مصر، كما أنه حق متاح لكل المواطنين المصريين بحكم دستورهم.
والجدير بالذكر فى هذا السياق أن بعض الصحف وبعض القنوات التلفزيونية الخاصة تجاوزت هذه الضوابط والقيود، وانطلقت لتشويه سمعة مصريين ومصريات، بعضهم رهن الحبس الاحتياطى، باتهامات مرسلة، ودون أن تسمح لهم بالرد على ما وجهته لهم من اتهامات.
ثالثا: يمكن محاولة فهم محاولات التضييق على حرية التعبير والحديث فى الشأن العام فى تلك الدول التى تتمتع بمستويات عالية من تلك الحريات، وتتمتع فيها الصحف والقنوات الإعلامية بمساحة واسعة من الاستقلال عن الدولة. قد يضيق بذلك مثلا الرئيس الأمريكى، وربما بعض أفراد الأسرة المالكة البريطانية، ولكن هذا المسعى للتضييق لا يبدو مفهوما فى دول لا تكاد تعرف مثل هذه الحريات، حيث أدوات الإعلام فيها إما مملوكة للدولة، أو تهيمن عليها مؤسسات خاصة أو عامة موالية للجماعة الحاكمة، وتتعرض للرقابة، اضافة رقابة ذاتية يمارسها من يستخدم هذه الأدوات للتعبير عن رأيه. وهذا هو الحال فى الغالبية الساحقة من الدول العربية.
رابعا: أن تناول الشأن العام من جانب كل المواطنين، المتخصصين وغير المتخصصين، هو أمر مفيد للسلطات العامة، لكشف ما قد غاب عنها، أو لتصويب مسار بعض سياساتها أو أسلوب تنفيذها. هل يجب أن تقتصر الشكوى من ارتفاع الأسعار وسوء مستوى الخدمات العامة على الاقتصاديين أو المهندسين أو الأطباء أو المعلمين، أم أن من تقدم لهم هذه الخدمات هم الأولى بأن يحكموا عليها؟ أو ليس الحديث عن الفقر والتضخم والتعليم والصحة من صميم الشأن العام. ألم يشك مواطنون من قبل من وجود سجناء أبرياء، وأقر الرئيس عبدالفتاح السيسى بوجاهة هذه الشكاوى، وأمر بتشكيل لجان حكومية للبحث فى أوضاع السجون؟ ألم يكن المواطنون الذين تحدثوا فى هذا الأمر يخوضون فى الشأن العام؟ فلماذا يبدو أن وزير الأوقاف وفضيلة مفتى الديار يريدان التضييق على حق احترم الرئيس ممارسته أمامه من قبل؟
خامسا: لماذا ينبرى للدعوة إلى وضع ضوابط للحديث فى الشأن العام كل من وزير الأوقاف وفضيلة مفتى الديار؟. هل يدخل ذلك فى اختصاصات أى منهما؟. الذى أفهمه أن وزارة الأوقاف مسئولة عن نشر الدعوة الإسلامية والإشراف على الأوقاف والمساجد، وربما المساهمة فى حماية الفقراء، ولكن لا أعرف أن من بين مهامها النظر فى الحقوق التى ينص عليها الدستور والمعاهدات النافذة فى مصر قانونا لكل المصريين. وفضلا على ذلك فكل منهما يمثل سلطة دينية، وظيفة المفتى هى إرشاد المسلمين إلى الصحيح من حكم الدين فى أمورهم الدينية، ووزير الأوقاف هو شخصية أزهرية، وإن كان من المتصور أن يتولى وزارة الأوقاف غير أزهرى، بل إن هذا ما حدث فى العهد الملكى فمن بين ثلاثين من وزراء الأوقاف فى ذلك العهد لم يكن من بينهم سوى أزهريان اثنان، وكان الثمانية والعشرون الآخرون شخصيات مدنية ممن تلقوا تعليما حديثا، وذهبوا إلى مؤسسات تعليمية أوروبية. وحتى فى العهد الجمهورى تولى وزارة الأوقاف ست مدنيين من بين اثنين وعشرين، كان أحدهم مهندسا مدنيا، وثلاث من أساتذة الجامعات، وضابطان. وعلى أى الأحوال فتولى أزهرى وزارة الأوقاف لا يخوله الحديث عن ضوابط فى ممارسة الحق فى الحديث عن الشأن العام. قد تكون تلك مهمة مؤسسة قضائية أو تشريعية، ولكنها بكل تأكيد ليست مهمة لوزارة الأوقاف. فضلا على أن ذلك لا يتفق مع وصف مصر على أنها دولة حكمها مدنى بحسب نص ديباجة الدستور.
سادسا: لماذا ينكر وزير الأوقاف وفضيلة المفتى ما أقره أبو بكر الصديق أول الخلفاء الراشدين عند توليه الخلافة: «أيها الناس: إنى وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينونى، وإن أسأت فقومونى». لاحظوا هنا أن أبا بكر قد خاطب الناس، أى أعضاء مجتمع الكيان السياسى الذى تولى أمره، وهم ما يقابل المواطنين فى الدولة الحديثة، ولم يقصر حديثه على من يسمون بأهل الحل والعقد. ودعوته لهم أن يهتموا بالشأن العام ويقيموا أداءه فيه.
ويقينى الثابت أن الشيخين الجليلين فى وزارة الأوقاف وفى دار الإفتاء يعرفان هذه الخطبة.
عودة إلى هابرماس:
تذكرت هابرماس لأن له أطروحة عن المجال العام تجعله مفتوحا لكل المواطنين، يلتقون فيه كمواطنين، يتجردون فيه من صفاتهم الخاصة العائلية أو المهنية أو الطائفية، ويتناقشون بطرح الحجج التى يتصورون صدقها أو صلاحيتها، وعلى أساس عقلانى وعلى قدم المساواة. والحجة التى تتفوق على غيرها من الحجج لصدقها أو صلاحيتها هى التى تصبح قاعدة السياسة العامة.
انتقد كثيرون تصور «هابرماس» للمجال العام باعتباره تصورا غير واقعى، يتجاهل تأثر كل مواطن بخلفيته الاجتماعية، والسياق الاقتصادى والاجتماعى الذى يوجد فيه المجال العام، ولكن أفكار الفيلسوف الألمانى تدعونا إلى أن نحلم بمجال عام لا يخرج فيه ممثلو السلطة السياسية ليحرمونا من ممارسة حق أساسى لنا كمواطنين وبشر، وهو حق الحديث عن الشأن العام.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف