الوطن
ناجح ابراهيم
الطب النفسى.. أيقونة الإحياء (2-2)
اللحظة التى اكتشفت فيها عظمة الطب النفسى كانت مؤلمة، فقد رأيت شخصية كبيرة المقام والثراء والعلم فاقدة للذاكرة ترفض ستر عورتها وتضرب من يسترها، فلما تعافى عاد إلى بريقه الأخاذ وعلمه الغزير وهيبته الكبيرة، قلت والله هذا أعظم علم بعد العلم بالله وبأمر الله، إنه يحيى الإنسان من جديد. ساقتنى الأقدار أن أكون الطبيب الوحيد الذى يجب عليه ويلزمه علاج أصعب الحالات النفسية فى أصعب الظروف فى المعتقل، وقد ذكرت منها حالة وسواس قهرى فى الصلاة والوضوء، ومن يوسوس فى الهروب من السجن فكان يحفر فى كل زنزانة أرضية أو يقفز منها إن كانت علوية، حتى إذا نزل لفناء السجن أصابه النعاس وكأن مهمته قد انتهت، وصديقه فى الهروب يوقظه مراراً «اصحى إحنا فى هروب»، وكان الضباط يسخرون منه «لو انتظر حتى الصباح لخرج لنفس المكان»، وفى كل محاولة هروب يصاب الجميع بأشد العقوبات دون ذنب. وقد تعلمت من الطب النفسى أن الوسواس القهرى مرض يصيب جميع الأجناس ولا علاقة له بوسوسة الشيطان أو أن الجن ركب الإنسان أو يجعله يشهق بين الحين والآخر، أو يتكلم على لسانه أو يتخيل أن الدنيا تتآمر عليه، أو تتجسس عليه.

كان معنا مريض إذا أكل معنا وأصيب بالإسهال ظن أن فلاناً من معدى الطعام أرادوا قتله وكنا نتندر على قولته «إذا أردت أن تقتلنى فأخبرنى أولاً»، وكان يتصور أن جندى الحراسة على السور يتجسس عليه ويصوره دون سواه، فقد كان مصاباً بنوع من الفصام. وقد أقنعت تلاميذى أن المرض النفسى كالعضوى، فيه خلل فى موصلات خاصة بالمخ، ويكون لدى المريض استعداد وراثى قد تصاحبه صدمة حياتية قوية تظهر المرض أو تخرجه إلى الوجود أو يظهر دونها.

وعلمتهم أن المريض النفسى فى مرحلة معينة يحتاج للعلاج الكيماوى ولا يستجيب وقتها لنصح أو إرشاد أو وعظ، وأنه لا يضرب أو يوبخ أو يعنف بل يحتاج لطبيب مختص يجمع بين الطب والرحمة مع الاهتمام والرعاية. وأن ما يفعله بعض المتدينين -الذين يتكسبون من علاج المرضى زوراً وبهتاناً-بضربهم لإخراج الجن منهم يعد جريمة لا تغتفر وسوأة علمية وإنسانية، وإن ما حدث قديماً فى بعض المساجد من قراءة القرآن على عشرات النساء وهن يصرخن فى المسجد بطريقة هستيرية يعد امتهاناً للمساجد وابتذالاً للدين، وتسطيحاً للعقول، وأن هذا يعد نوعاً من الهستيريا التى تكثر فى الفتيات وتعدى سلوكياً ونفسياً، وتحتاج للعلاج النفسى والإنسانى والاجتماعى، وأن هؤلاء الذين يزعمون أن الجن حضر على فلان وفلانة لا دليل لهم على ذلك ولا نصيب لهم من العلم الحق بالله وبأمر الله أو بالطب. فهذه الأمراض تصيب كل الأجناس والأعراق والمؤمنين والكافرين، وكنت أردد دوماً: «هل الشيطان ترك كل الأمم ولم يركب إلا أمة الإسلام والتوحيد»، وقاومت بشراسة فكرة أن الجن يلبس الإنسان أو زواج الجن من الإنس، فالجن مخلوق من نار والإنسان من طين ولا يمكن تلاقيهما، وأن معظم الشرور التى يرتكبها الإنسان هى من نفسه أو من الصحبة السيئة «أى من شيطان الإنس»، وهو الأخطر، فالأول لا يملك إلا الوسوسة ولا سلطان له سوى ذلك وإلا سقط التكليف عنا، وأنه يصرف بكلمات من القلب مثل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أو المعوذتين، أما شهوة النفس وشيطان الإنس فعلاجهما صعب وشاق. لقد علمنى الطب النفسى أن أرحم الناس وأعذرهم وألا أقول مثل غيرى «لو كان مؤمناً بحق ما أصابه الاكتئاب أو الفصام»، وألتمس الأعذار للناس، وساعدنى على الصفح والعفو والتسامح والتغافل وعدم لوم أحد. وعلمنى أن الطبطبة على الناس من أخلاق النبوة، وأن التجاوز عنهم من شيم الكرام «عسى الله أن يتجاوز عنا»، كما حكى الحديث الشريف، تعلمت منه الكثير مما يضيق المقام والمقال عنه.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف