الوطن
سمير عمر
من أوراق دنجوان متقاعد (١-٣)
رفع العجوز كأس النبيذ الأحمر عالياً وكأنه يقرع الكأس مع رفيق يقف فى مواجهته، ثم ارتشف منه رشفة أعقبها بنفس عميق من سيجاره الكوبى، ثم بضحكة كسرت سكون منزله الهادئ الذى لم يبرحه منذ أسابيع.

أثار صوت ضحكته استغراب مديرة منزله الشابة، فمنذ التحقت بالعمل لديه قبل نحو عام لم تضبطه متلبساً بالابتسام إلا قليلاً، أما الضحك على هذا النحو فهذه أول مرة.

نظر العجوز إليها مبتسماً، ثم ولى وجهه شطر النافذة التى تسللت من خلالها أشعة الشمس ممزوجة بلسعة برد ناعمة تليق بأول أيام العام الجديد.

- مستغربة من ضحكى بصوت عالى؟

- بصراحة آه.. حضرتك دى أول مرة أشوفك بتضحك بالطريقة دى بس بصراحة بردو حضرتك ضحكتك حلوة.

تبسّم العجوز وبدا وكأنه يسترد بعضاً من شبابه.

- زمان ماكنتش بضحك غير بالطريقة دى، وكان كل الستات بيقولوا زيك كده.

- فين اللاب توب بتاعك؟

- موجود.. حضرتك عايزنى أكتب لك حاجة؟

- آه.. بس حاجة بعيدة عن الشغل.

- حاجة خاصة؟

- أنا حاسس إنى محتاج أكتب أو بالأحرى محتاج أحكى وانتِ تكتبى.

- تحت أمرك يا فندم.

فتحت حقيبة اللاب توب وأخرجته وجلست فى مواجهته وهى تضغط على زر التشغيل.

نبّهت موسيقى تشغيل اللاب توب العجوز الذى بدا وكأنه قد ذهب بعيداً فى رحلة سريعة لم يُعده منها سوى موسيقى تشغيل الجهاز وصوت مديرة منزله فى أعقابها.

- ها يا فندم.. أكتب إيه؟

- رد الرجل: تكتبى اللى هقوله بس ماتقاطعينيش ولا تبدى أى رد فعل، تكتبى وبس.

- حاضر يا فندم.. هكتب وبس.

نظر الرجل من خلال النافذة إلى الأشجار العالية التى تحيط بسور منزله، وارتشف رشفة من كأس النبيذ وقال:

كانت أجرأ منى فدعتنى إلى منزلها.. كنت أمهر منها فقبلت الدعوة، فضّت بكارة زجاجة نبيذ على طاولة مرتفعة، فأعددت لنفسى قهوة على نار موقدها الهادئة. خفتت الأضواء، فنحتت ظلينا تمثالين على الحائط المقابل. رفعت كأس النبيذ وارتشفت رشفة فلمعت شفتاها. تناولت قدح القهوة (القهوة أشربها ساخنة)، لسعت سخونة القهوة طرف لسانى فبللته بلعابها المعسول، وأطفأت الأنوار فدبت الحياة فى التمثالين المنحوتين على الحائط.

على خصرها شامة، وفى جبينها نور، وبين نهديها تتفجّر ينابيع العشق. قبّلتها ففتحت أمامى أبواباً كنت أظنها موصدة إلى الأبد، واستيقظ داخلى ما كنت أظنه قد فارقنى إلى غير رجعة، فدلفت إلى حيث يستريح المتعبون من عناء السفر الطويل، وامتدت عناقيد القبل من نبع العشق إلى نبع الرغبة المنحوت كثغر فرعونى تبسّم حين التقى شفتى، فأنشدت شعراً رقصنا على إيقاعه حتى غمرتنا أشعة الشمس التى جاءت قبل موعدها.

كثيرة تلك المرات التى أشرقت فيها شمسى قبل موعدها، فقد صادقت من كانوا أكبر منى عمراً، وأحببت من كُن يسبقننى بسنوات، لكن شيئاً ما كان يتكون داخلى فيهبنى عقلاً أكبر وقلباً أرق. فى سن السابعة أبدعت شعراً، وفى العاشرة مارست «طقوس الحب البسيطة خلسة» داخل فصلى الدراسى المحشور فيه أكثر من أربعين طفلاً بحكم السن.

كان الله حاضراً دائماً كلما ألمّ بى ما يُحزننى، فربطنى به إحساس غير الذى كان يربط أقرانى بهذا المجهول العظيم الذى يجبرنا سيدنا فى الكتّاب على التضرع له فى الصلاة. أحببته كأم وأب وصديق، بكيت كثيراً فى صلواتى مدفوعاً بهذا العشق الإلهى وولجت عوالم الصوفية ولوجاً لطيفاً قبل أن أدرك معانيها.

هى أيضاً متصوفة على نحو خاص، تبدو للناظرين غير مكترثة بتعاليم الدين وأوامره ونواهيه، لكنها فى أعماقها ممسكة بجوهره الذى يعيدها إلى الطريق الصحيح كلما زلت قدماها.

هل فى علاقتنا ما ينكس رأسينا خجلاً أمام من أحببناه دون خوف من نار، وعشقناه دون طمع فى الجنة؟
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف