الوطن
خديجة حمودة
.. ودارت الأحلام

اكتشفت مؤخراً أن الحياة كلها بأيامها ولياليها وسهراتها، وشمسها وقمرها ونجومها، وغفواتها وأحلامها وأمنياتها، وأهدافها المقبولة والخرافية، تدور كالكرة الأرضية، وكلما تقدم بنا العمر وزادت سنوات عمرنا وهاجم الشيب رؤوسنا، وتنازلنا عن بعض الطموحات، وغادرنا بعض الأحباب، والتقينا بآخرين نبشوا قلوبنا، بحثاً عن مكان أو سكنى أو دفء أو همسات ووعود، حدث شىء من تلك الخواطر، وعرفنا المركز الحقيقى الذى ندور حوله. ولأن كل ما نمر به من مراحل ونجاحات وسقطات، وتألق أو خفوت، وحب وكراهية ويأس، وأمل وحنين واشتياق، وإشباع وفطام، ما هو إلا تفسير لأحلامنا، فقد تأكدت أنها تدور وتغيّر اتجاهاتها، فبعد أن كانت مجرد أمنية بأن تتفتّح شعيرات الرئة الدموية، وتنتفخ وتمتلئ بالهواء الخارجى بعد تسعة أشهر من الاستيلاء على أكسجين الأم، كبرت الأحلام بعد أولى دوراتها، وعرفت طريقها والحقيقة والاتجاه الصحيح، فمن هواء النافذة الصغيرة إلى هواء شاطئ صغير، إلى آخر خاص جداً، ثم إلى آخر خارجى بعيداً عن الأرض والأصل وحضن الأم والأهل وأصدقاء الطفولة، وانتقلت من سيارة تدفعها الأم أمامها كما تريد، وترافقها وتحوطها بعينيها ونبضات قلبها ودعواتها اللانهائية، إلى أخرى لا تسير إلا بشحنة كهربائية طفولية ضاحكة، كثيراً ما تنفد قبل موعدها، لتصدم القلب الصغير عندما يشعر بالفشل والخوف من الانسحاب من سباق البدايات القصيرة وتنهمر دموع اليأس وتبدأ رحلة البحث عن مساعدة.

وتتحول الأحلام إلى سيارة لا بد من وثيقة تأمين تحمى ما يتبقى من راتب الشباب، الذى لا يحقق كل الأحلام مرة واحدة، إلى سيارة فارهة، وتذاكر طيران صادرة من بطاقة ذهبية لا يحملها إلا صفوة المجتمع، وربما تصل إلى طائرة خاصة وقاعة كبار الزوار.

وتدور الأحلام، وتنتقل من حضن دافئ يحمى من تقلبات الطقس وبرودته وأمطاره، وقسوة صيفه وسخونة شمسه، إلى أيدى صاحبة ذلك الحضن، وهى تحتضن الكف الصغير، الذى بدأ فى النمو واستطاع أن يضغط على تلك الأصابع، ويتعلق بها ويقبّلها ويرفض أن يفلت يده من بينها، حتى فى لحظات النوم، وتزداد رغبته فى التشبّث بها وقت الألم، إلى أن تدور الأحلام دورة أخرى، ويشير إليها من الطريق بعلامة النصر والنجاح، إيذاناً بالبعاد والعدو وراء ما رسم من أحلام وتمنٍّ من جولات، بحثاً عن حب وقلب وهمسات ولمسات مختلفة عن تلك التى منحتها له.

وتدور الأحلام وتتسع الدائرة وتتوزع المشاعر والقبلات والأحضان وتزداد الخطوات اتساعاً ويعلو صوتها، وقد يصبح لها رنين تنتظره الأم والزوجة والأبناء ليكونوا فى استقبال العائد دائماً بعد غياب، حاملاً لفافات الأمانى.

وتدور الأحلام وتزداد وتصبح حملاً ثقيلاً على القلب والعقل والبدن، فيشعر الإنسان بأنه يطاردها ويصبح هدفه الأول الوصول فى الوقت المناسب إلى نهاية السباق دون خسائر أو فقدان، إلا أن معادلة الحياة لا تفك طلاسمها، دون الحصول على مقابل، فلا بد من إكمالها للحصول على النتيجة النهائية قبل أن تتوقف الأحلام عن دورانها، وقبل ألا يبقى لنا إلا الذكريات وصوت أم كلثوم تشدو وتبدع وتتألم وتتنهد، وهى تقول «ودارت الأيام»، لتؤكد ما قاله الحكماء فى نصائحهم «لا تضع كل أحلامك فى شخص واحد، ولا تجعل رحلة عمرك وجه شخص تحبه مهما كانت صفاته، ولا تعتقد أن نهاية الأشياء هى نهاية العالم، فليس الكون هو ما تراه عيناك». ولكم أؤكد، لا تحاولوا البحث عن حلم خذلكم، لأن الأحلام تدور وتدور وتعود وتتحقق.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف