وعلى النقيض كان أهل مكة، وعلى رأسهم طواغيت الكفر من قريش.. يسألون ويتجادلون.. يعاندون ويكذبون وينكرون.. ولا يدعون فرصة للجاجة إلا اهتبلوها.. يسخرون من أمر «الساعة» التى ينذرهم بها محمد، ويتنزل الروح الأمين على خاتم المرسلين فيلقنه من آيات ربه: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا * إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا * كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا» (النازعات 42 - 46)، ولكن قريشاً لا تفيق من ضلالها لا ترعوى، وتلاحق الرسول والمسلمين بالإيذاء حتى لم يعد أمامهم مفر من الهجرة إلى يثرب.. وتتوالى الأيام والمسلمون يخرجون سراً إلى يثرب، بينما الكفار يضربون أخماساً فى أسداس، ماذا هم فاعلون لمنع الرسول والمؤمنين من الخروج من حصارهم لهم فى مكة؟!
ويأتى الميقات فيخرج الرسول (صلى الله عليه وسلم) ومعه صاحبه أبوبكر مهاجرين إلى يثرب، فى صباح كل يوم منذ خرج الرسول، عليه السلام، وصاحبه من مكة، كان عامر بن فهيرة، مولى أبى بكر، يقوم مع إشراقة شمس كل صباح، على رعى غنمه فى حضن جبل ثور والفضاء الذى حوله ليطمس آثار أقدام أسماء بنت أبى بكر، التى كانت تأتى إليهما بالطعام والشراب، ويضلل قريشاً عن مكان اختباء الصاحبين، حتى إذا ما جن الليل، أخذ هذا المولى الأمين بعض غنماته إلى الغار فيحلب للرسول، صلى الله عليه وسلم، وصاحبه ما يشاءان، ويكر عائداً خادعاً قريشاً بالأغنام التى يقودها أمامه ويرعاها عن الاهتداء إلى مكمن الصاحبين!
مضت الأيام تباعاً، والرسول، عليه السلام، وصاحبه بغار ثور، وقريش تزداد ثورةً وغيظاً وتتلمس محمداً، عليه السلام، وصاحبه فى كل منعطف يقود إلى يثرب، دون أن تعثر لهما على أثر.. وبعد ثلاثة أيام بعد أن أعياها البحث فى اتجاه يثرب، يممت طغمة من فرسانها جنوباً بحثاً عنهما فى غير الاتجاه إلى يثرب، لعلهما يختفيان فى بعض الجبال المحيطة بمكة..
واقتربت شرذمة منهم من غار ثور وبداخله الصاحبان.. فتناهت إلى سمعهما أصوات وقع حوافر الخيل على باب الغار، وقد أوشكوا على الدخول إليه، لولا أن صاح واحد منهم: «ألا ترون ما عليه من نسيـج العنكبوت»؟!.. وأضاف آخر: «يبدو الغار وكأنه مهجور لا يدخله ولا يخرج منه أحد»، فيقفى ثالث: «وهاتان الحمامتان الوحشيتان»! فيقول الأول ضاحكاً: «راقدتان بعشهما فى فم الغار فى سلام»، فيعود الثانى ليقول لهم: «ألم أقل لكم إنه مهجور»؟!.. أما بداخل الغار، فإن القلق على رسول الله كان قد بلغ بأبى بكر الصديق كل مبلغ، مخافة أن يبلغ طواغيت قريش من الرسول ما يريدون.. فتنثال عبراته رضى الله عنه، ولكن النبى ما إن يفرغ عليه السلام من صلاته، حتى يأخذ بيد أبى بكر حانياً مشجعاً، فيهمس إليه أبوبكر: «يا رسول الله هؤلاء قومك يطلبونك!.. أما والله ما على نفسى أبكى ولكن مخافة أن أرى فيك ما أكره».. فيقول له النبى مواسياً مشجعاً: «لا تحزن إن الله معنا».. فينظر أبوبكر إلى مدخل الغار ويقول للرسول هامساً: «لو أن أحدهم نظر إلى قدمه لأبصرنا تحت قدميه»! فيقول له النبى: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما»!!.. فيشير أبوبكر إلى أحد القرشيين قائلاً: «يا رسول الله إنه يرانا»!.. ولكن النبى، عليه السلام، يطمئنه قائلاً فى ثقة: «كلا، إن الملائكة تستر عنّا بأجنحتها.. يا أبا بكر لو كان يراك ما فعل هذا!.. ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما»؟!!
سرت السكينة وشعت نسماتها من النبى المصطفى إلى صاحبه أبى بكر.. بينما يأتى من الخارج صوت أمية بن خلف منادياً الفرسان من أسفل الجبل.. «ما أرَبكم فى الغار»؟! فيقول له أحدهم: «لعلهما يختبئان بداخله»! ولكن أمية يجيبه: «إن عليه لعنكبوتاً كان قبل ميلاد محمد»!. هنالك لوى طغمة الفرسان أعنة خيولهم، وكرّوا عائدين ليلحقوا بقريش فى بطن الوادى.. وليمضى الجميع هائمين بحثاً عن طلبتهما فى الشعاب والجبال والبيداء..
وبعد أن مضى الوقت وهدأت حركة قريش يأساً، واطمأن النبى، عليه السلام، وصاحبـه مما نقله إليهما عبدالله بن أبى بكر من قنوط قريـش وهدوء حركتها، استقبلا تحت جنح الليل الدليل عبدالله بن أُريقـط الذى أتاهما بالناقتين، ثم تهيأ النبى، عليه السلام، وصاحبه للرحيل ومعهما عامر بن فهيرة مهاجرين إلى حيث شاء الله.. ويقف النبى، صلى الله عليه وسلم، فيتضرع داعياً إلى الله: «الحمد لله الذى خلقنى ولم أكُ شيئاً، اللهم أعنى على هول الدنيا وبوائق الدهر ومصائب الليالى والأيام، اللهم اصحبنى فى سفرى واخلفنى فى أهلى وبارك لى فيما رزقتنى، ولك فذللنى، وعلى صالح خلقى فقومنى، وإليك ربى فحببنى، وإلى الناس فلا تكلنى، أنت رب المستضعفين وأنت ربى، أعوذ بوجهك الكريم الذى أشرقت له السماوات والأرض فكشفت به الظلمات وصلح عليه أمر الأولين والآخرين، أن يحل بى غضبك أو ينزل علىّ سخطك، أعوذ بك من زوال نعمتك وفجاءة نقمتك وتحول عاقبتك وجميع سخطك، لك العتبى خير ما استطعت، ولا حول ولا قوة إلا بك».
انسلت الصاحبان تحت جنح الليل من الغار، ميممين شطر يثرب، ولكن النبى، عليه السلام، لا يستطيع أن يقاوم الالتفات خلفه إلى مكة، فيقف ناظراً إليها متملياً وقد أخذه الشجن.. ليقول وعيناه تنظران إلى أبنية مكة التى أخذت تتضاءل أحجامها على البعد.. «والله إنك لأحب أرض الله إلىّ، وإنك لأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجونى ما خرجت»!!
فى الصحراء القاحلة، بين هدوء الليل البهيم، ووهج الشمس الحارقة فى النهار، مضت الرحلة المباركة التى فرضت تاريخاً جديداً وتقويماً جديداً للتاريخ.. النبى، عليه السلام، وبصحبته أبوبكر الصديق يغذان السير فى طريقهما إلى يثرب.. تمر بالنبى أطياف ما ألمّ به وبالمسلمين فى مكة.. كيف لهؤلاء الكفار الذين تحجرت قلوبهـم أن يصدوا هذا الصد المفحش عـن سبيل الله، وكيف يجرهم العناد والغباء إلى هذا المركب الصعب الذى ركبوه.. آذوا بنى قومهم وآذوه ونكلوا بالمستضعفين، وأمعنوا فى إيذائهم وتعذيبهم، وحاصروا المسلمين لمنعهم من عبادة الله، وضيقوا عليهم مكة بما رحبت، ولاحقوهم فى كل ربع من ربوعها وزقاق من أزقتها.. وجعلوا يمارسون تعذيب المسلمين والتنكيل بهم والبغى عليهم حتى أخرجوهم من ديارهم وكلفوهم من أمرهم رهقاً.. ما لهذا الصلف والجبروت؟!!.. وإن النبى، صلى الله عليه وسلم، لفى أساه وخواطره، يتنزل عليه جبريل، عليه السلام، فيوحى إليه ويرطب قلبه من كلمات ربه.. «وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِى أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ» (محمد 13).. ثم يرتفع الوحى، والنبى، عليه السلام، وصاحبه ماضيان فى طريقهما إلى حيث دار الهجرة التى احتضنت المسلمين من هذا الطغيان الذى أخرجهم إخراجاً من مكة حيث بيت الله الحرام!