بوابة الشروق
بسمة عبد العزيز
عن الحيِّ الذي كان
في واحدٍ مِن محلات البقالة العتيقة؛ أمسك البائع بسمَّاعة الهاتف الأرضيّ الذي لا يزال مُحتفظًا بمَوقِعه على الرفِّ الخشبيّ، وأطلق زفرةَ حنُق وهو يقول: "أدينا بنتعلم مِن الأول أهه.. بكره نحفظ الخريطة". كان مُحدِّثه على الطرفِ الآخر يبادله شيئًا مِن مشاعر الغضبِ وَشي بها مَسار حوارِهما، وبات واضحًا أن المعالمَ الجُغرافية التي انقلب حالُها بين يومٍ وليلة، تحظى باهتمامٍ عام وبغيظٍ وَفير؛ خاصةً حين تدخَّلت سيدةٌ تبدو مِن الزبائن المُستديمين بتعليقٍ عابر، لم تنتظر أن تتلقى عليه ردًا: "صحيت الصبح لقيت كوبري في البلكونة".
***
نرتبط بأماكن عشنا فيها وخبرنا طرقاتِها وصنعنا ذكريات طفولةٍ عَصيَّة على المَحو في أرجائِها. تنعقد بيننا وبينها صِلةٌ وثيقةٌ ليُصبح هدمُها وتبديلُ مَعالمِها التي ألفناها؛ بمنزلةِ القَضاءِ على جُزءٍ مِن تاريخِنا الشَخصيِّ؛ فضلًا عن التاريخِ الجَمعيِّ العام.
***
أهلُ مِصر الجَديدة الذين عاشوا فيها عقودًا طويلةً، ورفضوا هجرتَها مع مَوجَاتِ الخُروج إلى الهَوامش الأكثر ثراءً، وأبوا الاستقرارَ في المُنتجعاتِ المُسوَّرة والمُدن المُغلقةِ؛ لا يَكُفُّون هذه الأيام عن اجترارِ أحزانِهم، ولا يكتُمون أساهم واستياءَهم على المُستويات كافة؛ إذ لهذا الحيِّ قيمةٌ فنِّيةٌ ومِعماريةٌ كُبرى؛ يعرفها مَن وُلِدَ فيه حَقَّ المَعرفةِ، ولتصميمِ ميادينه وتوزيع أرصفتِه ومِساحاتِه عَبَق خاص خالص لا يُشبه غيره، كما أن بعضَ مَناطقه تُعَدُّ أثرًا لا يَجُوز المَساسُ به، لكن هذا كُلَّه ذهب أدراج الرياح. خُطوطُ المترو الثلاثة التي رَبطَت أنحاءَ الحيِّ على مَدارِ قَرنٍ مِن الزَّمان، وأخرَجت سُكَّانه إلى أحياءٍ مُجاورةٍ لقَضاءِ أعمالِهم، ونَقلت مئاتِ آلاف الطُلاب والطالبات مِن وإلى مَدارسهم وجامعاتِهم، قد انتُزِعَت بدعوى التطوير رغم أن مِثلها لا يزالُ يسير في دولٍ أوروبيةٍ؛ هي أقربُ ما تكونُ إلى التَطَوُّر مِنَّا، أما الحدائقُ التي اشتهرَ بها الحيُّ منذ أسَّسَه البارون إمبان؛ فقد صارت خرابًا، والشوارع التي ظلَّت جميلةً بَهيجةً في أحلَكِ الظُروفِ وأصعبِها؛ قد امتدت إليها المَعاولُ تنتزع بهاءَها ورونقَها. تفتَّتَ المكانُ وتبَعثرَ وصار مَسخًا؛ فيما بقي عجزُ قاطنيه عن حمايتِه سيدَ المَوقِف.
***
ترتيبُ الأولوياتِ في نُظُم تحكُمها سَطوةُ رأسِ المَال؛ هو كالعادةِ ترتيبٌ لا يُراعي البشرَ وحقوقَهم، ولا يستوعب أفكارًا تتعلقُ بالجمالياتِ وقواعدِها ومَنطقِها، وحين تسير العَجلةُ وتدور التُروسُ لتهرس البشرَ والشجرَ والأثرَ، دون أن تتكبد مَشقةَ تخديرِ الضحايا وجَلبِ المُسكِّنات، يغدو الألمُ عميقًا قاصمًا، وبعض الأوجاعِ تجعل المَرءَ في حال الشَللِ التام.
***
أعرف مَن حَاولَ الهُروبَ مِن قسوةِ الإيذاءِ بأُمنياتٍ ساذجةٍ؛ تجعلُ تدميرَ الحيِّ بمنزلةِ الجراحة اللازمةِ التي لا بد مِن التعامل مع مَصاعبها؛ لحصد الشفاءِ الأكيد. قِيلَ ضِمن ما قيل أن الحيَّ قد ازدحم وفاضت أعدادُ ساكنيه عما يحتمل، وأن توسعتَه واجبةٌ وأن خُططًا لنقلِ أشجارِه المُعمِّرة حاضرةٌ؛ وأن مَن يقتلع ويقتل سوف يُحي ويُزهِر، والحقُّ أن الوقوفَ في وجهَ الهَجمةِ بدا بلا فائدة، والفرار من تأنيب الذاتِ بابتكار الحِيل الدفاعيةِ؛ ليس إلا بديلًا أسلم وأأمن مِن أي مُواجهة.
***
تناقضاتٌ مُبهرةٌ تضربنا مِن هنا وهناك؛ تنتشر على سبيل المثال حملةٌ لافتاتها ضخمة عديدة، يزينها شعار "اتحضر للأخضر". ما إن يلتفت السائر أو يُرسل الراكبُ ببَصرِه مِن حوله حتى يقتحم الشعارُ مجالَ رؤيته، والقادمُ مِن منطقة يجتث المسؤولون عنها كل ما يُضبَط مُتلبسًا باللون الأخضر؛ لا يسعه إلا أن يتساءل عن معنى اللافتة. فضلًا عن ركاكةِ الشِعار وسطحيته، يبدو المُحتوى ذاته عجيبًا؛ فمَن الذي يتلقى الأمرَ.. وأين هو الأخضر.. وكيف يكون "التحضير"؟
***
تهاجم أسرابُ الجرادِ الحقولَ والمُسطَّحاتَ الخضراءَ وتُحيلُها إلى يابس، وثمَّة مُعداتٌ وجرَّافات لا تترُك حتى اليابسَ للذِكرى؛ إنما تغرسُ مَكانه أسياخَ الصُلبِ والخرسانات، وتَنتهكُ باطنَ الأرضِ وتُخرِج الجُذورَ والأحشاءَ، وتترك ندوبًا قبيحة، ومحاولات بائسة للتغلب على أحاسيس القهر والفقدان.
***
بعد أن أتمَمتَ مُهمَّتي الشرائية الخفيفة، وهَمَمت بالخروجِ من محل البقالة، سَمعت البائعَ الذي أمسك بالسمَّاعة مِن جديد: "اتقفل؟ يعني أرجع البيت النهارده منين؟!".
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف