الوطن
حسن ابو طالب
الخليج بين غريزة الانتقام والحكمة الغائبة
يتوعد الإيرانيون بالرد على مقتل قاسم سليمانى، قائد فيلق القدس والمسئول الأول عن الانتشار الإيرانى فى المنطقة. ما يصدر عن قادة عسكريين إيرانيين ونواب برلمان وسياسيين يعكس حجم الضرر السياسى والمعنوى والعسكرى الذى خسرته «طهران»، وكما يجسد حالة استنفار قصوى من أجل الرد بقوة ووضوح حسبما قال المرشد لمساعديه وأعضاء مجلس الأمن القومى الإيرانى. وهناك من فسر هذه العبارة بأنها بمثابة أمر من أعلى القيادات بأن يكون الرد منسوباً إلى إيران وليس إلى غيرها. بعبارة أخرى أن مؤسسات إيرانية عسكرية وغيرها هى التى ستتولى الرد على الولايات المتحدة. ربما تساعدها فى ذلك أذرع إيرانية منتشرة فى بلدان المنطقة، ولكن هذا الأمر لن يغنى عن عمل إيرانى مباشر وصريح وفقاً لتحليلات إيرانية وأخرى موالية لـ«طهران»، تعمل على تأجيج الموقف.

فى هذا السياق تبدو تصريحات مسئولى الحرس الثورى والجيش الإيرانى بأن لديهم 35 هدفاً فى المنطقة تمثل مصالح أمريكية كبرى ستكون فى مرمى النيران الإيرانية بمثابة رسالة تهديد قوية بأن الرد المقبل سيكون شاملاً ومتعدد المستويات ولن يقتصر فقط على رموز أمريكية أبرزهم الجنود فى سوريا والعراق ودول أخرى، أو شركات نفط أمريكية، أو البوارج والسفن التى تجوب الخليج العربى، بل أيضاً من يقدمون لها خدمة الصيانة والتزود بالوقود ومستلزمات الإعاشة اليومية. وفى مثل هذا السيناريو تكون إيران قد أعلنت حرباً شاملة على أكثر من بلد وأكثر من قوة إقليمية فى آن واحد. وهنا يتبادر إلى الذهن تساؤل سريع: هل لدى إيران كل هذه القوة التى تمكنها من استهداف هذه المساحة الواسعة من الأهداف الأمريكية والإقليمية، ليس فقط عسكرياً ولكن اقتصادى ودعائى وسياسى وقانونى؟ أم أن الأمر لا يتجاوز التهديد وإثارة الرعب لدى الولايات المتحدة والتشكيك فى قدرتها على إيذاء إيران؟

الإجابة عن الشق الأول، هى: بالقطع ليست هناك إمكانيات إيرانية حقيقية قادرة على إصابة هذه القائمة الطويلة من الأهداف مجتمعة، بل ربما تصيب أحدها ووفق شروط لا تؤدى إلى إثارة رد فعل أمريكى أقوى لا يمكن احتواؤه لاحقاً، وهنا تبدو المعضلة الكبرى التى تواجه المخططين الإيرانيين، وهى كيف ترد ولكن دون رد أمريكى قوى. إضافة إلى ذلك أن الإيحاء بأن الذين سوف يُستهدفون، بما فى ذلك الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون وغيرهم، لن يكونوا قادرين على الرد بالمثل، هو أقرب إلى الوهم وفقدان البصيرة. والرئيس ترامب لم يترك مجالات للتكهن فى هذا المجال، فقد هدد بدوره برد ساحق على قائمة طويلة من الأهداف الحيوية الإيرانية إذا تعرض الجنود الأمريكيون إلى ضربات إيرانية بأى شكل كان مباشرة أو عن طريق إحدى أذرعها. والمؤكد أن الولايات المتحدة إذا أصيب لها عدد من الجنود أو ضربت لهم مصالح كبرى فلن يستطيع أحد أن يكبح جماح الرئيس ترامب فى الرد غير المعتاد وغير المتناسب حسب قوله.

يجرنا ذلك إلى النظر لما يجرى فى العراق، باعتباره ساحة محتملة للصراع، إن لم تكن مؤكدة، للصراع حال انفجاره. وهو البلد العربى الذى يحركه النفوذ الإيرانى ويؤثر على خياراته ومسارات حركته الخارجية. فأحد تداعيات مقتل قاسم سليمانى وأبوالمهدى المهندس، نائب قائد الحشد الشعبى العراقى، تمثلت فى قرار برلمانى يلزم الحكومة باتخاذ الإجراءات لإنهاء الوجود العسكرى الأجنبى، وتحديداً الأمريكى، فى العراق، لأنه تجرأ على السيادة العراقية، فضلاً عن سبب عملى شرحه رئيس حكومة تصريف الأعمال، عادل عبدالمهدى، أمام أعضاء البرلمان الممثلين لشيعة العراق دون حضور النواب الممثلين للسنة والأكراد، بأن العراق لن يستطيع فى ظل الظروف الحالية أن يحمى القوات الأمريكية الموجودة على أرضه، كما أنها، حسب قوله، لن تستطيع حماية نفسها، فى إشارة لا تحتمل الجدل إلى الحشد الشعبى، الذى يعد قانوناً جزءاً من القوات المسلحة العراقية النظامية، ويأتمر بأمر رئيس الوزراء، باعتباره القائد الأعلى للقوات العراقية المسلحة، ولكنه، أى الحشد، فعلياً يتمتع بحرية حركة كبيرة بعيدة عن القرارات الرسمية، وهم الآن لديهم نزعة انتقام لا تخطئها العين، ويريدون إذلال الأمريكيين وطردهم شر طردة وفقاً لما قاله القيادى الشيعى البارز مقتدى الصدر. وبهذا التطور يكون العراق شريكاً فى الرد الإيرانى، وعليه أن يتحمل الثمن إذا تطورت الأمور، إلى خروج القوات الأمريكية بالفعل ومعها قوات الناتو الشريكة فى التحالف الدولى المناهض لـ«داعش»، الذى قام بضرب أحد المواقع العسكرية العراقية فى كركوك، حيث قتل عدد من الجنود العراقيين وخطف آخرين. ولا تخلو هذه الحادثة من دلالة صادمة، فما زال «داعش» موجوداً وقادراً على الحركة فى ربوع مختلفة من العراق. وإذا خسر الجيش العراقى المزيد من الأسلحة الأمريكية والتدريب فى ظل هذه الظروف فكيف له أن يواجه «داعش» ويواجه رد الفعل الأمريكى المرجح على من يشاركون إيران تحركاتها الحربية ضد المصالح الأمريكية؟

والمهم التنبه إلى أن قرار البرلمان العراقى يلزم الحكومة العراقية بإجراءات إنهاء الاتفاقية الأمنية مع الولايات المتحدة، ولكنه لم يلغ الاتفاقية، وهو الذى صدق عليها من قبل، رغم أن هذا من صلاحياته. ما يعنى عملياً أن القرار مؤجل التنفيذ، وسوف يأخذ وقتاً فى التفاوض وصولاً إلى صيغة مقبولة للطرفين، وإلى حين ذلك سوف تبقى القوات الأمريكية، التى تعتبر لدى السنة العراقيين والأكراد بمثابة عنصر توازن مهم جداً فى العلاقات بين مكونات الشعب العراقى، وعامل يمنع انزلاق العراق تماماً إلى دائرة النفوذ الإيرانى الأبدى، ما يلغى تعددية الشعب العراقى وينهى أى أمل فى إصلاح البلاد ومحاصرة ما فيها من فساد ونفوذ طاغٍ للحشد الشعبى وقياداته.

هذه الملابسات تعبر عن أزمة عميقة تواجه كل الأطراف دون استثناء، والانصياع إلى رغبة الانتقام المفتوح والمزلزل للمنطقة والمذل للجنود الأمريكيين من جانب إيران وحلفائها، كما طالب بذلك مقتدى الصدر، زعيم كتلة «سائرون»، يقابلهم إصرار أمريكى على استخدام القوة العسكرية القصوى والمدمرة، لن يترك للحكمة والتعقل أى مساحة يمكن أن تخفف الأضرار المحتملة. المفهوم والمتوقع أن تحدث حالة غير عقلانية تصيب الجميع فى لحظات الصدمة الكبرى مثل مقتل رجل بحجم «سليمانى». والرهان ما زال معقوداً على أن يتم تجاوز تلك الحالة العاطفية غير العقلانية، والنظر إلى الأمور بشكل مختلف لا يقود الجميع إلى مجهول يصعب تقديره.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف