يبدو أن عامة البشر من قديم الزمان لا تحب التوسط والاعتدال، ولا تجتمع عليه، وأن لديها ميولاً فطرية تشدها إلى التطرف.. تارة إلى أقصى اليمين، وطوراً إلى أقصى اليسار! وربما كان إلى هذا التأرجح ترجع نشأة الحضارات البشرية وازدهارها وذبولها وزوالها! وربما كان قد أعان على هذا ضيق الصدور وتبرمها من المثابرة وتجنب عامة الناس لطول التأمل والصبر على مواجهة النفس والتدبر وإعطاء العقل والأعصاب حظيهما الواجبين من الهدوء والابتعاد عن الحدة والاستعجال!
حياة الآدمى، بل حياة الكائنات، لا تخلو قط من التكرار، ومن الإعادة.. بعضها إرادى مقصود، وبعضها غير إرادى يجرى بحكم الغريزة أو بحكم الاعتياد.. ويبدو أن توالى التكرار والإعادة ولّد ونمَّى المرونة والسهولة والابتكار والانتفاع بكل ما أمكنه الآدمى مع الوقت والظرف.. يأتى الانتفاع والابتكار من استخدام الآدمى حاجاته واستعداداته وحواسه وحركاته فى محيطه من أحياء وغير أحياء حتى أمثاله من الآدميين.. فحضارتنا الحالية بنواتجها وثمراتها وكشوفها وطاقاتها التى لم يسبق لها من قبل مثيل، وكذلك جميع ما سبقها من حضارات هى ولائد ومولودات ذلك النمو المستمر فى السهولة والمرونة والتطور فى أداء التكرار والإعادة الدائمين فى حياة الآدمى.
يجب ألا ننسى أن كل ما فى الجماعات صغيرها وكبيرها متقدمها ومتأخرها من أصول وقواعد وأنظمة وإدارات وطبقات، ومن حضارات وعمار ومدنية وعلوم وفنون وآداب، ومن عقائد وأخلاق وإنسانيات، كل ذلك مردودات عظيمة لبشر يجب ألا ننساهم حين نذكر أغلاطهم وأخلاط هؤلاء البشر التى ليس لها آخر حتى الآن!
من الحكم العطائية: «ربما وردت عليك الأنوار فوجدت قلبك محشواً بصور الآثار فارتحلت من حيث نزلت».
من المهالك التى لا ينجو منها طامع: حب الجاه، وحب الرئاسة، وحب المال!!!
اجتنب مصاحبة الكذاب، فإن اضطررت إليها فلا تصدقه، وحذار أن تعلمه أنك كشفت كذبه، فيوارى أمره ويضمر إيذاءك بطبعه!
الشكر لله مراد لنفسه، والصبر مراد لغيره، ويُحْمد الصبر لأنه يفضى إلى الشكر، ويوصل إليه، فهو له خادم.
دوام التكرار والإعادة فى حياة الآدميين، هذه الحياة دائمة الانتشار والانحسار والتغير السريع والبطىء، أدى ويؤدى وسيؤدى إلى دوام انتشار الانتماءات العامة بينهم، هذه الانتماءات المبنية على العاطفة والميول وظروف الزمان والمكان ونفوذ المأثورات والتقاليد والعادات وتأثير الحماس والمغالاة والتعصب.
يبدو أن جوهر الآدمى لم يتغير منذ وجد على هذه الأرض، لأنه إلى الآن لم ينجح فى أن يخلص إنسانيته من ارتباطه بها، أى بالأرض، ارتباطاً يشبه صلة الفرع بالأصل، مع أن فيه أشياء لا يمكن أن تنتسب إلى الأرض كسعة العقل وشدة الذكاء، وكعمق الفن وإلهاماته.. هذا فضلاً عن ميول الآدمى الشديدة إلى تجاوز نطاق حدود حياته المكانية أو الزمانية على الأرض التى وإن لم يجاوزها فعلاً فإنه يجاوزها تصوراً، هذا التصور لازم له كلزوم الماء والهواء لحياته، وربما تخلّص من لزومها إذا لم ينقطع تطور معارفه وعلومه!
على كثرة ما معنا حالياً من المعارف والإمكانات والوسائل والفرص مما لم يتهيأ لآبائنا بل لم يخطر لهم على بال فإنها لم تفلح فى بث العناية بتلك المراقبة، بل ولعلها لم تفلح فى إيقاف تقلص العناية والاحتفال بما فى داخل الآدمى! ذلك لأن حضارتنا على تقدمها الهائل غير المسبوق حضارة نفعية اقتصادية صرف.. تتملق العوام فيما ترى أنهم يؤثرونه من القديم والجديد على السواء، فليس لها رسالة واضحة جلية معلنة روحية أو أخلاقية تبتغى تقويم داخل وسلوك الإنسان كإنسان، ولذلك ولأمثاله من الأسباب والمبررات والأعراض والمخاطر التى لا نظير لها فى ماضينا يشعر كل آدمى فى كل مكان بشىء من القلق على يومه وغده، وبأن دنياه فقدت ثقة الأيام وباتت مهددة بما لا يمكن أن يقاوم وبما يمكن أن نفاجأ به فى أية لحظة من دمار شامل!
يتفاوت الأنس وجوداً وعدماً، كما يتفاوت أثر هذا وذاك.
من فقد أنسه بالله بين الناس ووجده فى الوحدة فهو ضعيف.
ومن وجد أنسه بالله وهو بين الناس، وفقده فى الخلوة فهو معلول.
ومن فقد أنسه بالله بين الناس وفى الخلوة فهو ميت مطرود.
ومن وجد أنسه بالله فى الخلوة وبين الناس فهو المحب الصادق القوى.
ولو أنصت الإنسان إلى نبض قلبه، لانكشف له مع كل نبضة سر الحياة وقدرة الخالق عز وجل.
لم يعد البشر يفكرون تفكيراً حقيقياً فى مستقبل جاد وحقيقى مما يتصوره ويرجوه العقلاء.. إذ دنيانا دنيا خيالية بنت زمانها المضطرب المتخاصم التائه.. لا تأمن أفراده ولا جماعاته على قرار ثابت أو حكم صائب مُتّبع ومرضىّ عنه فى زمانه ومكانه.
نحن حتى الآن غنينا وفقيرنا، عارفنا وجاهلنا، متطورنا ومتأخرنا فى قبضة ما أنعمت به أو بخلت علينا الأرض طوال تحركنا وسكوننا أثناء حياة كل منا فيها.. نواجه نعمتها أو نقمتها مباشرة فى زراعة أو تعدين، أو غير مباشرة من خلال تجارة أو صناعة أو خبرة أو عمل.. كل ما أمكننا معرفته والانتفاع به فى الحضارات كلها الحالية والسابقة بدأ ونما فى قبضة الأرض نتيجة الفتوح أو الهجرات، أى نتيجة التوسع الأرضى فى حدود ما نعرفه عن الأرض اتساعاً أو عمقاً!
إن كلاً منا حاكماً كان أو محكوماً، غنياً أو فقيراً، عالماً أو جاهلاً، حضرياً أو ريفياً، راقياً أو متخلفاً، حريص اليوم والغد على ما يسميه حياته الخاصة حرصه على حياته هو.. وحياته الخاصة هى مستوى ذاتيته وذاتية عائلته التى يحاول ما أمكنه بكل وسيلة أن يسعى لها ومن أجلها وحمايتها وإسعادها، لأنها هى مركز أنانيته كفرد منفصل تماماً عن غيره من الأفراد، وهو فى هذا ينسى حتماً إنسانيته لأنه لا يفكر فى إنسانيته إلا إذا تعلقت بشىء لا يتصل بحياته الخاصة التى سبقت الإشارة إليها!!
قال حكيم من الزمن الأول: إن لم تجد من الصحبة بداً، فصاحب من إذا صحبته زانك، وإذا اختصمت إليه صانك، وإن احتجت إليه كفاك وأعانك، وإن رأى فيك حاجة سدَّهَا، وإن وعدك صدقك، وإن شخت لا يتخلى عنك، وإن سألته أعطاك، وإن أمسكت عنه ابتداك.
ما وقع الآدمى فيما حُرّم عليه إلا من جهتين: إحداهما سوء ظنه بربه وأنه لو أطاعه وآثره لم يعطه خيراً منه حلالاً. والثانية أن يكون عالماً بذلك ولكن شهوته تغلب صبره وهواه وعقله، فالأول من ضعف علمه، والثانى من ضعف عقله وبصيرته.
لا يمارى أحد فى أن الإنسان أرقى أنواع الكائنات، وأنه قد خُلق مكرّماً فى البر والبحر، وفى القرآن المجيد: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً» (الإسراء 70)..
إلى الإنسان وإلى عقله وخياله وفكره وعطائه ترجع الحضارات الإنسانية عبر التاريخ.
صديقك عقلك، يصاحبك ما صاحبته.