الوطن
د. محمود خليل
ليلة 25 يناير 1952
أحداث التاريخ لا تعرف المواعيد. إنها تهبط على البشر مثل سهم القضاء الذى لا يملك أحد رده. قد تتداخل مجموعة من الحوادث الجزئية أو تتشكل مشاهد معينة أمام عين الرائى فيتوقع حدثاً كبيراً أو صغيراً، لكنه بحال لا يستطيع أن يحدد توقيته. أواخر عام 1951 كانت مصر تعج بالعديد من المؤشرات التى تقول إن حدثاً كبيراً يحلّق بالأفق. وعندما استقبل المصريون الأيام الأولى لشهر يناير عام 1952 لم يكن أحد منهم يتوقع أن يحتضن هذا الشهر بالذات حدثين جللين سيتدخلان فيما بعد فى تحديد مآلات الأمور فى بر المحروسة خلال هذا العام، وأنهما يحملان نذيراً بالتحول القادم الذى استعدت له الأرض.

بات المصريون ليلة الخامس والعشرين من يناير عام 1952 بعد أن أدوا طقوس حياتهم اليومية التى اعتادوا عليها. الموظف الوفدى بات يحلم بأن يستغل وجود حزبه فى سدة الحكم فى الحصول على ترقية جديدة. والموظف غير الوفدى يحلم بأن يصحو على خبر إقالة حكومة الوفد وتشكيل حكومة جديدة تنصفه أو فى أقل تقدير تمكنه من لحظة تشفٍ من غرمائه الوفديين العاملين معه داخل «المصلحة». بات العامل يحلم بشغلانة، والفلاح برزق يأتيه من حيث لا يدرى ولا يحتسب. الكبار المقربون يحلمون بالمزيد، والكبار البعيدون يهيمون بلحظة اقتراب من فلك الحكم. الكل كان يعيش لحظة حلم لكن سرعان ما كانت تصدمه الحقيقة التى خبرها الشعب جيداً عبر تاريخه وتلخصها عبارة: «ليس فى الإمكان أبدع مما كان»، تلك التى نحت حولها الشاعر أمل دنقل سطوره الشعرية التى تقول: «ليس ثم من مفر.. ليس ثم من جديد.. لا تحلموا بعالم سعيد». ربما يكون البعض من أبناء هذه الليلة قد صرفوا هذه الهواجس التشاؤمية عن خواطرهم، وناموا وهم يتفاءلون بالقادم حتى ولو كان محبطاً. فأحياناً ما يخرج الأمل من رحم اليأس، والتغيير من رحم الإحباط.

الأوضاع فى القنال كانت متأزمة للغاية. فقبل ما يزيد قليلاً على 3 شهور كانت حكومة الوفد -بزعامة مصطفى باشا النحاس- قد اتخذت قراراً بإلغاء معاهدة 1936، ودعت إلى إخراج الإنجليز بالقوة من مصر. تسجل بعض الكتابات التى أرّخت لهذه الفترة أن البعض كان يردد فى الشارع: «لله الأمر من قبل ومن بعد.. خسر الوفد الإنجليز والملك فى ضربة واحدة». انطلق شباب الجامعات والعمال والفلاحون إلى الإسماعيلية يدفعون بأيديهم وبما تصل إليه أيديهم من سلاح غول الاحتلال. أزمة شباب هذا الشعب حينها كانت تتمثل فى تحكم الحزبية فى كل شىء حتى فى العتاد الذى يصل إليه. كل فصيل كان يحارب تحت رايته، حتى الوفد كان يقدم قدماً ويؤخر الثانية. لم يكن زعماؤه يريدون خسارة كل شىء، واختار الحزب -حينذاك- أن يقف فى منتصف الطريق فدهسته عربات القوى السياسية الزاعقة فى شوارع مصر، مثل الإخوان ومصر الفتاة واليسار. لحظة تحدٍ وجودى عاشها الحزب مع الساعات الأولى ليوم 25 يناير عندما بدأت الأخبار تتواتر من الإسماعيلية تقول بأن حدثاً جللاً يلوح فى الأفق.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف