وتمر سنوات العمر سريعاً، لأكتشف أننى عشت تجارب وحكايات لا حصر لها والتقيت الكثيرين من الأصدقاء والأحبة والأهل والمعارف والصفوة وأصحاب الابتسامات التى تضم كل من يلتقى بها وتربّت على قلوبهم وتنقل لهم التفاؤل والسعادة وحب الحياة ورائحة الورد والياسمين وتُسمعهم أرق الألحان وأصوات الطيور الساحرة من خلال نبراتهم بالصدفة، كما التقيت محبى الأذى للآخرين ومصدّريه للعالم كله -إن أمكن- هواة اختلاق الأحزان والقبح والأصوات النشاز وناشرى الفوضى والنزاعات والحروب وأصحاب القضايا الكيدية والشكاوى المستمرة والشماتين بالصدفة. وتذوقت جمال النجاح والتألق ودرست وعملت بإحدى المهن التى لم يتوقعها لى أى ممن يعرفوننى بالصدفة. وأحسست بمعنى الضغوط والانتظار والترقب ووجع البعاد والحنين والاشتياق وبرودة الغربة التى تجمد القلوب والأطراف والمشاعر وتدفع العقول لحافة الجنون وتغرق الوجوه بالدموع وتحفر لها طرقاً يصعب محوها أو تمهيدها وطمسها مهما حاولنا بالصدفة فى أغلب الأحيان، وعرفت المعنى القاسى لانتظار أن يخترق الصمت صوت الهاتف المميز للحبيب وصورته تنير الشاشات من حولك، فتشعر بأنك دخلت إحدى القاعات المخصصة لإدارة عمليات حربية تحت مياه المحيط المزودة بمئات اللوحات الإرشادية التى تنقل جميع الصور أعلى سطح البحر وأسفله والغارقة فى صمت الخطورة والتعليمات والأوامر العسكرية والأصوات الناطقة برموز لا يعرفها إلا أصحاب القبعات الزرقاء والسوداء وترابية اللون الذين يقودون أساطيل العالم وتتعجب من أن الحب والمعزة والقرب والأمنيات الجميلة تمنح الأحبة كل هذه المساحات والصور والخيالات وتتعجب أكثر أن أغلب تلك اللقطات كانت بالصدفة.
والصدفة فى قاموس المعانى العربى هى اسم مفرد فعله صادف أو تصادف ومنه مصادفة والمفعول مصادف، ويقولون صادف الشخص أى لاقاه ووجده من غير موعد ولا قصد. وعندما تكون الصدفة ممتعة أو سعيدة أو تحمل الخير معها أو تجىء بأحبة طال انتظارهم فجأة وبلا موعد ولا ترتيب، فإن تراثنا الشعبى ينطق ألسنتنا بالمقولة الشهيرة: «رب صدفة خير من ألف ميعاد»، لأننا قد نحدد المواعيد ونتفق فيما بيننا ونستعد وننتظر ونترقب ونتلهف لنجتمع فى لقاء أو حفل أو نبدأ عملاً جديداً إلا أن القدر يأمرنا بالتأجيل أو تغيير المسار أو الإلغاء أو إفساد كل شىء دون سابق إنذار. وفى لحظات السعادة والأمنيات الجميلة تغنى فتياتنا مع العندليب «كان يوم حبك أجمل صدفة». ومن المثير للدهشة أن (الصدفة) بمعناها الواضح البسيط كثيراً ما غيرت وحددت مصائر البعض منا وعقدت اتفاقات ما كان أى منا يتوقعها وجعلتنا نمارس مهناً ونعيش فى مدن ونتنقل من بلد لآخر ونتلقى صنوفاً من العلم ما حلمنا بها أو تمنيناها أى وقت من حياتنا. وفى أشهر حوادث الطائرات التى تسقط، حيث تنتهى حياة جميع ركابها تلعب الصدفة دور القدر، فيتأخر البعض عن موعد الرحلة ويلتقط حاجزو المقاعد الأقلام ويحصل ركاب قائمة الانتظار على أماكن لم تكن لهم لتكون أسوأ صدفة حين يرحلون ليكونوا ضحايا الصدفة. ومن التركيبات اللغوية الجميلة لهذه الكلمة أن يقولوا «صادف هوى فى نفسه»، فمعناه أنه نال رضاه وأعجبه واستحسنه، و(وليد الصدفة) أى ارتجالى وفجائى ودون إعداد مسبق. أما إذا أراد شخص أن يثمّن لقاء ما أو يمتدحه ويصفه بأجمل الأوصاف، فهناك مقولة «يا محاسن الصدف»، جعلنا الله جميعاً وأحبتنا من أصحابها.