الوطن
رجائى عطية
المثقف والسلطة (1)

من أيادى الأستاذ الدكتور محمد عنانى على الترجمة، أنه ترجم إلى العربية مؤلفات للمفكر العربى الكبير إدوارد سعيد، كتبها المؤلف بالإنجليزية، رامياً إلى خطاب القارئ الغربى، ونقلها إلينا بالعربية الدكتور عنانى. من الكتب النفيسة التى ترجمها لهذا المفكر العريض، كتابRepresentaions of the Intellectual.. أو «المثقف والسلطة» طبقاً لعنوان الترجمة العربية.

الدكتور عنانى كدأبه فى كل ما ترجمه، يعطى جانباً من التقديم لفنون وإشكاليات الترجمة، وما صادفه منها فيما يترجمه، وهو يشير إلى ما لاقاه فى هذه الترجمة من تداخل دلالات الألفاظ بين العربية والإنجليزية، وكيف اجتازه حتى فى عنوان الكتاب، أما موضوعه فقد تبين له بعد طول قراءة أن «المحور الرئيسى» الذى تدور حوله هذه الدلالات جميعاً، هو علاقة المثقف بالمعنى العربى بالسلطة، وهو محور يتشعب ويتفرع عند تناول الجوانب المختلفة لهذه الدلالات الكثيرة المتشابكة.

وسط الشعاب وفروعها، يخرج القارئ بالفكرة التى يرمى الدكتور إدوارد سعيد إلى إبرازها، ألا وهى ضرورة استقلال المثقف أياً كان تعريفه عن السلطة.. بمعنى عدم الارتباط بقيود تحد من تفكيره أو تقيده أو توجه مساره.. والمثقف الذى يعنيه سعيد هو ذلك المتمسك بقيم عليا كالحرية والعدالة، المهتم بنقلها للغير بشتى الوسائل، والذى لا يقبل بالحلول الوسط التى تنبهم وتتمايع فيها الحدود بين الصواب والخطأ!

هذا المثقف هو الذى يقع على عاتقه عبء «تمثيل» العامة فى مقاومة أشكال السلطة الجانحة أو المخادعة أو المستبدة. هذا المثقف لا يدفعه إلا ما يؤمن به من قيم ومبادئ إنسانية عامة، لا تنحصر فى الحزبية الضيقة، أو الفئوية المتعصبة، أو المذهبية المتجمدة.. تسيره الهواية الصادقة ولا يقيده احتراف!

وأصل الكتاب الذى ترجمه الدكتور محمد عنانى للمفكر العربى إدوارد سعيد كان محاضرات ألقاها تباعاً على موجات الأثير ضمن سلسلة «محاضرات ريث»، التى تقدمها الإذاعة البريطانية B.B.C، وتناوب عليها مفكرون كبار أمثال برتراند راسل، وأوبنهايمر، وجون كينيث جالبريث، وجون سيرل، وتوينبى.. بدأ إدوارد سعيد فى إلقائها برغم جوقة ارتفعت صرخاتها بالاحتجاج على اختيار هيئة الإذاعة البريطانية للدكتور سعيد، بدعوى أنه من المناضلين النشطاء فى سبيل الحقوق الفلسطينية، مدفوعة بأكاذيب أن صفة الفلسطينى المغتصب وطنه الجارى اغتيال شعبه! مرادفة للعنف والتعصب وقتل اليهود!!

حول دور «اللا منتمى» الذى يلعبه المثقف أو المفكر، ينوه الدكتور سعيد فى مقدمته إلى أنه نشأ من إدراكه لمدى العجز الذى كثيراً ما يشعر به المرء إزاء شبكة قوية غلابة من «السلطات الاجتماعية».. هذه السلطات التى تسد المنافذ أمام إمكان تحقيق تغيير مباشر. وهذا يستحضر «روح المعارضة» فى توجه المثقف لا القبول والتناغم. هذه الروح هى القادرة على مواجهة وكبح التحديات وأخطرها آفة الاعتياد والاستسلام للوضع الراهن!

وكما تزداد الهوة بين الأغنياء والفقراء، تتسع أيضاً بين المثقفين أصحاب الرغبة فى التغيير، والمستمسكين حتى الرمق الأخير بالحال الراهن!.. يغلب على هؤلاء المفكرين المتصدين لآفات الموجود، أنهم بلا مكاتب أو مناصب، ويواجهون موجات مصرة على مقاومة دورهم وعزلهم، ولكن هذه «العزلة» خير للمثقف الحقيقى من الصحبة التى تعنى قبول الأوضاع الحالية على ما هى عليه!

فى ستة فصول تدور محاور الكتاب: صور تمثيل المثقف، استبعاد الأمم والتقاليد، منفى المثقفين: المغتربون والهامشيون، محترفون وهواة، قول الحقيقة للسلطة، أرباب دائبة الخذلان!

قد يقال إن صور تمثيل المثقف تتعدد بتعدد قنوات التغيير والنشر والبث.. ولكن الصعوبة تكمن فى أن المثقف يتحمل مقاومة الموجود للجديد الراغب فى التغيير، ثم هو منحاز للفقراء والضعفاء الذين لا يمثلهم أحد فى مراقى السلطة التى تتيح المنافذ وتهيمن عليها. زاد المثقف هو «إصراره» على أداء دوره، ورفضه «للصيغ السهلة» والتوفيقات الجاهزة المبتذلة. مهمة المثقف والمفكر تتطلب اليقظة والانتباه على الدوام، ورفض الانسياق وراء أنصاف الحقائق.. من شأن هذا التحرر أن يتيح للمثقف واقعية مطردة ثابتة، وطاقة عقلانية مؤثرة، ومكافحة تحفظ توازن الفرد أمام متطلبات النشر والإفصاح التى غالباً ما تصادر على منح الفرصة والمساحات لأصحاب الفكر والرأى!



فى الفصل الثانى من كتاب المفكر العربى الكبير إدوارد سعيد، الذى ترجمه الدكتور محمد عنانى إلى العربية من الإنجليزية، تحت عنوان: المثقف والسلطة يتحدث الكتاب عن «استبعاد الأمم والتقاليد».. والأمم فى المقاييس الحالية لم تعد فقط الأمم الأوروبية، فقد أدى تفكيك الإمبراطوريات الاستعمارية العظمى، ونشأة العالم الثالث، والتحرر العالمى، والسرعة المذهلة فى الانتقال والاتصال، إلى إيجاد وعى جديد فى رقعة أوسع، وإلى أمم حاضرة غير الأمم الأوروبية، مما صار معه التعميم فى الحديث عن المثقفين والمفكرين لا يعبر عن التنوعات التى يحفل بها عالم اليوم خلاف الأمس الذى كان محصوراً فى أوروبا.

ذلك كله، مع اختلاف القوميات والأديان واللغات والثقافات والحضارات فى قارات الأرض، أدى إلى شحوب صورة المفهوم العالمى لمعنى المثقف أو المفكر، ومع ما يفرضه ذلك من تعددية تنضح على المثقف تبعاً لمحيطه، فإن أخطر ما وقعت فيه الثقافة أو الحضارة الغربية، أنها اختزلت العالم الإسلامى فى مصطلح واحد لا يحيط بأن عدد المسلمين يزيد الآن على 1.5 مليار مسلم، فى قارات مختلفة، يتحدثون بست لغات كبرى من بينها العربية والتركية والفارسيّة، ومن ثم يكون تعميم الغرب فى الحديث عن هذا العالم الكبير اختزالاً لا يغطى ما فيه من تنوع، ويستبعد أمماً وتقاليدها من الفهم الغربى للعالم الإسلامى، وهلم جرّا.

يتوقف الدكتور إدوارد سعيد عند ما نشهده فى عدد كبير من بلدان العالم الثالث من تصاعد أصوات العداء والتناقض بين سلطات الدولة القومية التى تحرص على الوضع الراهن، والسكان المستضعفين «المحبوسين» داخلها.. فهى لا تمثلهم بل تكتم أصواتهم، الأمر الذى يفرض على المثقف ويتيح له فى نفس الوقت فرصة حقيقية لمقاومة استمرار الغالبين. نرى فى العالم الإسلامى وضعاً أشد تعقيداً من ذلك، استشرت فيه الشللية وجماعات المصالح التى اتخذت السلطة شوكة لها مما أضاف إلى المثقفين أعباءً متزايدة فى التبصير ومقاومة هذا التحوصل الذى يضرب حريات ومصالح الشعوب!

هذا الاستبعاد لأمم بأسرها، أو لطوائف أو أقليات أو لمغلوبين على أمرهم، يوازيه ما أسماه الفصل الثالث من الكتاب: مَنْفَى المثقفين: المغتربون والهامشيون. يشبه هذا الفصل اغتراب المثقفين وتهميشهم وتهميش أدوارهم بأنه يوازى النفى فى أثره، لأنه يعزل المثقف أو المفكر عن المحيط، ويقلص أثره، ويجعله كالحاضر الغائب، أشبه بمن يعيش فى منفى بخارج بلاده، انعزاله وإن كان معنوياً، إلاّ أنه أمرّ وأمضّ من العزل المادى بخارج الديار. الاغتراب واليأس والسقوط فى وهدة الإحباط واللا جدوى، هو كالنفى وأكثر فى اغتراب المثقفين أو المفكرين وتهميش أى أثر لهم فى النقد والتبصير والإصلاح!

إلى جانب هذا الاغتراب أو التهميش، شهد العالم فى النصف الثانى من القرن الماضى «إعادة ترتيب» لأقاليم بل لأوطان ودول العالم، أدت إلى تفريغ وانتقال شعوب إلى خارج أوطانها. أظهر الأمثلة على ذلك تشتيت الفلسطينيين أو إبادتهم، لتفريغ الأرض لإنشاء إسرائيل وإفساح المجال لموجات المهاجرين اليهود القادمين من أوروبا وآسيا. وقد أدت هذه التحولات بدورها إلى أشكال «مهجنة» من الصيغ السياسية نرى آثارها الآن فيما يجرى على الساحة من حولنا!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف