الوطن
عادل نعمان
نموت ونموت ويحيا التراث
«ابحثوا عن شىء غير التراث» لن يجددوه ولن يلمسوه، وسنعيش داخل سطوره وسيوفه، سواء عشنا أو متنا، أو قتلنا أو حرقنا، أو تأخرنا وتقدم العالم، أو تقاتلنا فيما بيننا وسلم العالم كله، وأنفقنا أموالنا وثرواتنا فى شراء السلاح نرفعه ونوجهه إلى أولادنا هنا وهناك، واللى مش عاجبه يشرب من البحر، أو يهاجر إلى بلد آخر، فهذا بلد التراث الثابت الجامد ولن يتحرك، فإذا كنتم أيها السادة على ثقة من تجديد الخطاب الدينى، فأرجوكم لا تنتظروا كثيراً أمام الأبواب، فقد قطعت جهيزة قول كل خطيب، وذهبوا جميعاً إلى مأدبة العشاء، وأنتم ها هنا جالسون منتظرون، اخلعوا جميعاً البدل والكرافتات والبنطلونات والفساتين، وهيا بنا إلى دواليب التراث نرتدى الإزار والعباءة والدشداشة والعقال، والنقاب والخمار والممشقة والخميصة والمرط، وتتزين النساء بالخلخال والمسكة، والرجال بالخيول المسومة والأنعام، فليس لنا فى هذه الحضارة من فائدة أو مصلحة، ولسنا على وفاق معها، بل كل مصالحنا ومغانمنا عند أبواب وخزائن هذا التراث.

هذا التراث كتبه بشر، ليسوا بمعصومين ولا مقدسين، مختلفو الثقافة واللغة، فهذا فارسى وذاك حبشى ورومى وعربى وقبطى، وهذا فقير وذاك غنى، وهذا سيد وذاك مملوك ومن الموالى، وهذا من البدو وذاك من الحضر، وهذا عالم وذاك دخيل على العلم، وهذا مخلص وذاك منافق، يصيبون ويخطئون ويصدقون ويدلسون، وهم أنفسهم كانوا على علم ببشريتهم، معرضون للخطأ قدر ما يحققونه من صواب، فهذا أبوبكر الصديق الصحابى يعترف أن شيطاناً يتملكه بين الحين والآخر، وهذا عمر بن الخطاب يطلب من الرعية أن يقوموه إذا أخطأ، وكان بينهما خلاف حول حروب ما سماه التراثيون «حروب الردة»، أو حرب «مانعو الزكاة»، والصحابة الرعيل الأول لهذا التراث، تقاتلوا فيما بينهم، وقتلوا بعضهم بعضاً، ومنهم من جار على المسلمين وغير المسلمين، وعلى بيت مال المسلمين، كتبة هذا التراث يا سادة بشر أصابوا وأخطأوا، فما الحكمة فى تقديس منتج بشرى، لا يخضع للدراسة والبحث والعقل.

نحن يا سادة نطالب بتجديد الفكر الدينى وتناوله للمشكلات العصرية، نبحث عن خطاب دينى لا يتعارض مع مصالح الناس ولا يتصادم مع العالم والعلم والحضارة، وإذا كان الرسول قد أتم على الأمة نعمة الإسلام، فلا يدعى أحد أنه قد وصل لفهم تمام هذه النعم، أو كشف من أسرار الله وآياته ما وسعته حكمة الله وعلمه، أو بلغ ووصل إلى محطة الأسرار الإلهية، ولم يبلغها أحد قبله أو بعده، حتى نقف على أبوابه نستقى منه العلم دون غيره، ولا نخرج من بين سطوره اليوم وغداً وبعد غد، وما دام لم يدع أحد أنه قد أتم هذه المهمة فرداً كان أو مؤسسة، يصبح ما وصلنا إليه حتى اليوم من الأوائل والمحدثين محل دراسة وبحث وتعديل، وإذا كان العلم فى أدق فهم له يقبل الخطأ والتعديل والحذف والإضافة، فإن التراث والتراثيين من باب أولى أن يقبلوا ما يقبله العلم والعلماء.

والتراث لم يخرج عن طبائع الناس وثقافتهم ولغتهم وتاريخهم وبيئتهم ومستواهم الاجتماعى، والأهم صدق ما ينقلونه من روايات، ولم يكن ما تم نقله عن الأوائل على اللفظ واللغة التى صيغت بها بتمامها وكمالها، أو موثقة فى محاضر أو مسجلة ومكتوبة على حرفها، لكنها مرويات «روايات» تناقلها الرواة على المعنى، وليس على لفظ القائل، فنقل على مفردات ولغة وثقافة الناقل وحدود فهمه واستيعابه وعلمه، فلو نقلت رسالة شفهية إلى صديق فى بلد آخر، عن طريق ثلاثة من معارفك، مختلفى الثقافة والعلم والمؤهل والمستوى الاجتماعى والمادى، واستقبلتها مع المرسل إليه، فى ذات الوقت، لوجدت الاختلاف ظاهراً واضحاً، ولو نقلت هذه الرسالة على مدار عام لكان الخلاف شديداً، وربما تشك فى الرسالة ومحتواها، وهى منك ومن أرسلها هو أنت، وربما تظن أنها رسالة من غيرك، إن لم يكن هذا مكتوباً وموثقاً وبخط يدك، والتاريخ وهو التراث غالباً يكتبه المنتصرون، فكتبه الأمويون على حساب بنى هاشم، وكتبه العباسيون على حساب الأمويين وهكذا، وكأن التراث وأسانيده فى العهدين يكتب على هوى نساخ كل خليفة من الخلفاء.

(وإذا كان هذا التراث قد حمل مجموعة من القبائل العربية المتناحرة فى ظرف ثمانين عاماً، قدم فى الأندلس وأخرى فى الصين)، فماذا كان عنوان هذا التراث وهذا الانتصار؟ وتحت أى رداء كان يتخفى، فتوحات أم غزوات؟ وهل أجبروا أهل هذه البلاد على الإسلام أم خيروهم؟ كم عدد قتلاه وأسراه وسباياه؟ ومن شرع خراجه وجزيته واستلاب حقوق الغير حتى أدمت ضروعهم؟ من حدد العطايا للكسالى من أموال المقهورين؟ العالم كله يعتذر عن تاريخه الظالم، الألمان والأمريكان وبابا الكنيسة، ونحن لم نعتذر عن تاريخنا للغير ونعتبره فخراً ومجداً، وماذا عن حروب الجمل وصفين والنهروان والحرة، أليست صناعة تراثية أيضاً؟ يأخذ بها المسلمون فيما بينهم، ويتقاتلون على هداها فى العراق وسوريا واليمن، فليست الأندلس والصين فقط اللتين وطأتهما أقدام التراث، بل وطأ التراث بلادنا وبيوتنا ورقابنا، وأصبح كل فريق منهما يدوس على الآخر سعيداً بتراثه، فهو علينا وعلى غيرنا أسد جسور.

تراثنا وجهة نظر، تاريخ ككل تواريخ الدنيا، كتب وسجل على الهوى والمصلحة ليس كل، نعم، نفخر ببعض ونعتذر عن البعض الآخر كما يعتذر المخطئ، نراجع ونأخذ منه ما ينفعنا، ونتجاوز عن أخطائه البشرية، فلا منتج بشرى مقدس مهما علا شأنه وارتفع.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف