ياسر عبد العزيز
إحياء الدور الثقافى المصرى
لا يمكن أن يتأسس أى مشروع لنهضة الدولة الوطنية، أو صيانة أمنها القومى، بمعزل عن متطلب جوهرى وضرورى يتمثل فى امتلاك القدر الملائم من عناصر «القوة الشاملة»، بما يُمكّن القيادة السياسية من تطوير خطط الحماية والبناء والصعود والتنافس.
وفى هذا الصدد، برز مفهوم «القوة الصلبة»، المتمثلة فى عناصر القوة المادية الملموسة، كما تجسّدها قدرات الاقتصاد والعسكرية والأمن والديموغرافيا وتماسك المؤسسات، بموازاة مفهوم «القوة الناعمة»، بما تتضمّنه من عناصر الجذب والصورة الذهنية الإيجابية والقدرة على خلق المطاوعة، وصولاً إلى مفهوم «القوة الذكية»، التى تمثل المزيج المتسق والمتناغم من عناصر القوتين.
يمكن القول إن مصر نجحت، بعد نحو سبع سنوات من اندلاع «انتفاضة 30 يونيو»، وتأسيس نظام سياسى ملتزم باستحقاقاتها، فى تحقيق هدف «تثبيت الدولة»، وبدأت فى مرحلة البناء، والصعود، والتنافس، وهو الأمر الذى يستلزم تفعيل عناصر قوتها «الذكية»، على أسس قابلة للتحقق والاستدامة.
لقد سعى «منتدى أخبار اليوم للسياسات العامة» إلى تقديم منتج فكرى متكامل يمكن أن يطرح توصيات قابلة للتفعيل، فى سبيل تعزيز القدرة التنافسية المصرية؛ ولذلك قام باستكتاب 30 من الخبراء والباحثين والمفكرين والمسئولين السياسيين الحاليين والسابقين، فى خمسة محاور رئيسية، من أجل إنجاز «تقرير الحالة المصرية 2019»، وهو التقرير الذى قدم بدائل وخيارات سياسية تتوزع على مجالات الاقتصاد والسياسة والإصلاح السياسى والمواجهة الأمنية والفكرية للإرهاب والبيئة والتصنيع وحقوق الإنسان.
ولأن إحياء أدوار الثقافة والإبداع فى مجال «القوة الناعمة» يعد عنصراً ضرورياً لاستكمال عناصر «القوة الذكية»، فقد اختص كاتب هذه السطور باقتراح بدائل إحياء هذه الأدوار، وهى البدائل التى تم عرضها خلال ندوة عُقدت الأسبوع الماضى، فى معرض القاهرة الدولى للكتاب.
وفى تلك الندوة، تم تأكيد أن الثقافة الوطنية تلعب دوراً فى تعزيز عناصر الجذب للأمة والدولة الوطنية، وتسهم بقدر وافر فى صياغة الصورة الذهنية المنطبعة عنهما، إلى حد نشوء مصطلح مهم فى هذا الصدد يمكن ترجمته فى عبارة «الدبلوماسية الثقافية»، التى يُعرّفها البروفيسور الأمريكى فرانك نينكوفيتش على أنها: «تعزيز فهم الثقافة الوطنية الجيدة فى الخارج، بحيث تشمل كل الجهود التى تروم الحصول على تقدير الجمهور العالمى للقيم الوطنية واحترامها».
يعنى ذلك أن الثقافة الوطنية فى حاجة ماسة إلى لعب دور فوق محلى من أجل تعزيز «القوة الناعمة» للدولة، وهو الأمر الذى يحتاج توظيفاً مدروساً للمنتج الثقافى والإبداعى، لإحداث التأثير المطلوب فى الجمهور الأجنبى، بشكل يشمل طيفاً كثيراً من المؤسسات والأفكار وقطاعات العمل الوطنى؛ مثل الفنون، والتاريخ، والعلوم، والدين، والتراث، وأنماط العيش المحلية.
لا يمكن تقييد العمل الثقافى والإبداعى، لأن فى هذا وصفة مجربة لإضعافه وسلبه الفاعلية المطلوبة، ولا يمكن تركه من دون تأطير وتنظيم وتفعيل، لأن هذا يعنى إضعاف دوره فى خدمة الصورة الذهنية و«القوة الناعمة» الوطنية.
سيقود هذا الدولة المصرية إلى ضرورة مقاربة القطاع الثقافى والإبداعى عبر حزمة من السياسات والتدابير، التى تستهدف تعزيز حريته، وتنوعه، واحتفائه بالحس الإبداعى ونزعة الابتكار، بموازاة تأطير غلته، وضمان انتظامها ضمن أطر الجودة، والاتساق مع الأهداف القومية.
وكلما كانت هذه المقاربة تعكس أصالة لا تخاصم الحداثة، وتتحلى بعناصر الجذب الآخاذة، وتتسق مع القيم العالمية، تعزز دور الثقافة فى دعم الصورة الذهنية، وتمتين عناصر «القوة الناعمة» وزيادة قدرتها التأثيرية.
لا يمكن تطوير التأثير الثقافى والإبداعى المصرى من دون سياسة تعتمد إدارة مركزية، بحيث تضمن اتساق الأداء، وتضافره، وتكامله، والتزامه أنماطاً معينة، وإخضاعه للتقييم والتقويم، وضمان تمتعه بدرجة مناسبة من الجودة والوفاء بالمعايير التنافسية على المستوى الإقليمى والدولى.
ستقوم «الإدارة المركزية» للملف بالكثير من المهام، ومن بين أهمها الاجتهاد فى تخصيص القدر الملائم من الموارد المالية لإحداث التغيير المطلوب، كما أنها ستنشئ آلية لتقييم جودة الإنتاج الثقافى والإبداعى، وستوجّه الموارد والإمكانيات إلى أنماط الأداء التى تخدم التغيير، وستُحد من الإنفاق غير المبرّر على الأدوات التى ثبت عدم قدرتها على خدمة «القوة الناعمة» الوطنية، وهو أمر ستكون له تداعيات سياسية واجتماعية، وقد ينتج ردود فعل مؤثرة، إلا أن خطة مدروسة تدريجية مبنية على قياس مخاطر دقيق يمكن أن تسهل النجاح.
لا يمكن لأى ثقافة وطنية أن تمتلك قدرات الجذب والتأثير المأمولة فى العالم الخارجى من دون أبطال ونجوم ورموز. فى السنوات الأخيرة، ولأسباب كثيرة، بالغت آليات تشكيل الوعى العام فى تصنيع أبطال ونجوم فى المجالات الثقافية والإبداعية والإعلامية يعكسون سوية مهنية وإبداعية قاصرة ورديئة، مما خصم من الصورة الذهنية للمجال، وصدّر انطباعاً سلبياً عن مجموع الأداء الوطنى فى هذا الصدد. ستكون «الإدارة المركزية» معنية بتعديل «آلية الفرز»، نحو صناعة رموز ونجوم وأبطال، فى المجالات الإعلامية والثقافية والإبداعية، يعكسون سوية مهنية وإبداعية جادة ومميزة وقادرة على المنافسة الإقليمية والدولية.
ومن حسن الحظ أن المعين الوطنى غير ناضب فى هذا الشأن، وعبر تلك الآلية الحاذقة سيمكن صناعة طبقة النجوم المرجوة، بما يعزز الصورة الذهنية، ويرفد «القوة الناعمة» الوطنية بما تستحقه من رموز قادرة على التأثير فى الإقليم والتمتع باحترامه.
إن صناعة الرموز الثقافية والإبداعية لا يمكن أن تكون فعالة من دون صناعة منصات ثقافية (مهرجانات، مؤتمرات، جوائز، منتديات، آليات نشر دولى وإقليمى، مؤشرات وتصنيفات وأدلة) تحظى بالاعتبار ضمن المنافسة الإقليمية والدولية، وستكون هذه المنصات ناجعة إذا أُسست على قواعد مهنية شفافة ورشيدة، واتسم أداؤها بالانفتاح والجودة والحداثة، وحظيت بتمويل سخى.
ورغم وجود الكثير من الحاضنات الإبداعية؛ مثل «قصور الثقافة» و«المجلس الأعلى للثقافة» وغيرهما، فإن المحصلة لا تخدم «القوة الناعمة» المصرية. لذلك، ينبغى أن تقوم الإدارة المركزية بخلق «حاضنة إبداع» موازية، فضلاً عن تطوير الحاضنات القائمة، على أسس الفرز المعيارى. وسيؤدى هذا إلى بروز أنماط إبداع ومبدعين جدد قادرين على خدمة هدف الجذب والتأثير وخلق المطاوعة الإقليمية والدولية.
إن الإرث الثقافى المصرى عظيم، لكنه قابل لفقدان الفاعلية وتراجع التأثير، بحيث سيكون لزاماً على الدولة أن تستثمر كثيراً من أجل إحياء الدور الثقافى الوطنى وتعزيزه.