بوابة الشروق
مدحت نافع
الصناعات الثقيلة ظهير الدولة
تحسّن قيمة الجنيه المصرى مقابل الدولار الأمريكى هو إحدى الثمار التى انتظرها المواطن المصرى كثيرا، وتحديدا منذ بداية انطلاق برنامج الإصلاح الاقتصادى نهاية عام 2016. خلال الشهرين الماضيين شاهدنا جميعا اتجاها هابطا لسعر صرف الدولار الأمريكى فى البنوك، خسر على أثره نحو 6% من قيمته السوقية. لاحظنا اقتران هذا الأمر بموسم سياحى هو الأفضل منذ سنوات، وتدفقات من النقد الأجنبى فى هيئة استثمارات حافظة (معظمها فى أدوات الدَيْن)، فضلا عن تحويلات مستقرة للعاملين فى الخارج لا تخشى المصادرة أو التضييق فى السحب حال إيداعها فى الجهاز المصرفى، وكذلك لم تتأثر عائدات قناة السويس سلبا بظلال التباطؤ فى معدلات النمو حول العالم، والتى كان يتوقع أن تقوّض حركة التجارة العالمية بشكل عنيف.
إذن خابت التوقعات السلبية، ومر الجنيه المصرى بفترة جيدة استعاد خلالها بعضا من خسائر عملية التعويم. هذا التحسّن فى قيمة العملة الوطنية، والذى تمت ترجمته فى هيئة تراجع حاد (يحتاج إلى تفسير وشرح) فى معدلات التضخم السنوية، يتطلع المستهلك النهائى إلى استشعاره فى أسعار السلع والخدمات، بينما بدأت الشركات المصدّرة تلمسه بالفعل عبر تراجع إيراداتها مقوّمة بالجنيه المصرى، وارتفاع تكلفة مدخلات الإنتاج المحلية والرواتب، فضلا عن ارتفاع فاتورة الطاقة على نحو يؤثر سلبا على فرص الاستثمار المحلى والأجنبى على السواء.
سعادتنا بتحسّن العملة المحلية لا ينبغى أن تنسينا الظروف الصعبة التى تعيشها الشركات الصناعية المصدّرة، والتى يعوّل عليها فى تحقيق نمو مستدام للاقتصاد الوطنى، عبر الإحلال الضرورى محل الواردات، وتحقيق فوائض إنتاجية للتصدير، وتوفير العملة الصعبة التى لا غنى عنها لسد فجوة الطلب المحلى. تلك الشركات تتنازعها اليوم الكثير من المتغيرات السلبية، فهى تتأثر بتقلبات حادة فى أسعار الخامات وبورصات المعادن على خلفية حالة من ارتباك المشهد السياسى العالمى، وتلتهم جانبا كبيرا من إيراداتها شركات الغاز والكهرباء، من خلال قفزات سريعة فى أسعار الطاقة صاحبت برنامج الإصلاح الاقتصادى المشار إليه، بينما يضيع هامش معقول من إيرادات فروق العملة كانت تحققه الشركات المصدرة سرعان ما تحوّل إلى خصم من إيراداتها بسبب اتجاه ــ يبدو عارضا سريعا ــ لتحسّن قيمة العملة الوطنية مقابل أكثر عملات العالم استقرارا.
***
الصناعات الثقيلة وفى مقدمتها الصناعات المعدنية هى بطبيعتها كثيفة استهلاك الطاقة، بطيئة العائد على الاستثمار، ويمكن أن تتوقف الدولة بقطاعاتها المختلفة عن الاستثمار فيها ــ جزئيا ــ خلال فترات الرخاء والسلام والاستقرار، نظرا لأن احتياجات السوق المحلية يمكن إشباعها بسهولة عبر الاستيراد. فإذا كانت فاتورة الاستيراد أقل كثيرا من فاتورة الإنتاج المحلى، وكان ذلك مقرونا بعدد من العوامل أهمها: تحسّن ميزان التجارة للدولة المستوردة، وعدم وجود تقلبات حادة فى أسعار المنتج المستورد يصعب التحوّط ضده من خلال العقود المستقبلية وعقود الخيارات، واستمرار التطوير فى تكنولوجيا مستدامة أكثر وفرا للطاقة والمواد الخام خلال فترات الاستيراد.. فلا بأس. أما إذا كان الواقع العالمى شديد الالتباس، وأسعار المواد الخام والمعادن تجتاحها تقلبات تخطئها معظم التنبؤات، وميزان التجارة للدولة يمر بعجز مزمن، مع انحراف هيكل التجارة الخارجية تجاه تصدير المواد الخام وإعادة استيرادها فى هيئة منتجات مصنّعة ذات قيمة مضافة.. فإنه لابد من الحرص على تحقيق قدر معتبر من الاكتفاء الذاتى من منتجات الصناعات المعدنية، حتى إذا استيأس الناس وظنوا أن التجارة الدولية فى خطر بفعل الصراعات المسلحة، والحروب التجارية، وحصار الأوبئة وخلافه، أمكن للدولة أن تعتمد على مواردها المحلية مهما كانت محدودة، بغية تصنيع احتياجاتها من الصلب والألومنيوم والنحاس والسبائك الحديدية.. وما يرتبط بها من صناعات وسيطة ومنتجات نهائية كالمواسير والمركبات والكابلات والألواح.
وكما أن لكل دولة جيشا وطنيا وترسانة أسلحة لا يمكن أن تستعيض عنهما بحماية دولية أو بالحياد الاستراتيجى الأبدى (إلا فى حالات نادرة مثل سويسرا)، فإن دولة لا يمكن أن تستغنى عن أسباب القوة والبقاء من صناعاتها المعدنية، قال تعالى فى سورة الحديد: «وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ»، وقال أيضا فى سورة الأنفال: «وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ». والحاجة إلى تلك الصناعات فى السلم باتت أكثر إلحاحا منه فى حالات الحرب والصراعات.
***
مصر من الدول التى بدأت مبكرا فى توطين الصناعات المعدنية، وفّرت فى سبيل ذلك مختلف سبل الدعم والحماية عند انطلاق مشروعات عملاقة فى هذا المجال. لكن الأزمة التى مازلنا ندفع ثمنها حتى اليوم، هو أن الكثير من تلك المشروعات قد أساء استغلال الدعم، وحالت الحماية التى قدمتها الدولة لها دون خلق أى منافسة جادة محليا أو خارجيا، مما كان له أثر سلبى على حافز التطوير، كون البقاء مضمونا. من ناحية أخرى تحوّلت الكثير من المشروعات إلى مستوطنات لفوائض من القوى العاملة غير المستغلة، والتى عجز الاقتصاد عبر سنوات دون تخصيصها التخصيص الأمثل، ناهيك عن تأهيلها ورفع إنتاجيتها.
الإقرار بأخطاء الطفرات الصناعية الأولى، خاصة تلك التى انطلقت مع خطط الستينيات من القرن الماضى، ثم ترهّلت مع مرور الزمن لا يعنى التعميم المطلق، ولا يعنى أنها لم تكن ناجحة فى حينها، ولا يعنى بحال أن نصم جميع المشروعات المشابهة بتهمة الفشل. كذلك يتحتم علينا النظر إلى كثير من الصناعات التى لها تاريخ فى بلادنا باعتبارها مازالت صناعات ناشئة، تحتاج إلى مساندة الدولة، لأنها ببساطة قد فاتها قطار التطوير والتحديث لعقود طوال. نعم، الضريبة التى نسددها اليوم نتيجة إهمال الكثير من المصانع دون صيانة وتحديث للتكنولوجيا والماكينات والمعدات لسنوات ودهور، ضريبة باهظة. نحن نبدأ من جديد، وكأننا مازلنا فى العام 1960 أو فى أحسن الأحوال فى عام 1980. هذا يبطل الحجة المنادية برفع يد الدولة عن تلك الصناعات، باعتبارها نالت فرصتها فى التطوير ولكنها لم تحسن استثمارها. حقيقة الأمر أن البحث عن العوامل التى تسببت فى تكلّس تلك الصناعات عبر الزمن هو مدخل ضرورى للتشخيص والعلاج، لكن البحث عن شماعات لحمل الخطايا والأوزار لن يفيد أحدا، فجميعنا أخطأنا ولو بالإهمال والصمت، لكن الأمل فى اللحاق بركب التنمية الشاملة المؤسسة على نهضة إنتاجية صناعية وتقنية فى الأساس، يحتاج إلى تخطيط وإلى «إمهال» وتؤدة، لكن هذه المرة على أسس سليمة، لا يختلط فيها الاقتصادى بالعاطفى والسياسى، ولا تطغى الجدوى الاجتماعية (الضرورية بالفعل) على الجدوى الاقتصادية.
كذلك لا يصح أبدا أن يختلط فى أذهاننا الدعم المطلق بالدعم المشروط المؤقت، والحماية المثبطة للتنافسية بتلك التى تضعنا على ذات العتبة مع منافسينا فى الداخل والخارج، ولا يجوز أن نكون ملكيين أكثر من الملك، أو رأسماليين أكثر من الولايات المتحدة ! تلك دول أدركت أهمية حماية صناعاتها الاستراتيجية ووضعت فى مقدمتها الصلب والألومنيوم، ففرضت رسوما حمائية ضد واردات تلك المنتجات الصناعية كى لا تؤثر سلبا على تنافسية المنتج الأمريكى، الذى بحكم الكثير من العوامل ترتفع فى بيئته ومجتمعه تكلفة الإنتاج بالضرورة عن نظيره الصينى. فإذا أضفنا إلى ذلك ما تنتهجه دول اقتصاد السوق من تمييز إيجابى للصناعات الثقيلة فى أسعار منتجات الطاقة من كهرباء وغاز طبيعى وخلافه، ندرك أن تنافسية صناعاتنا المعدنية المصرية باتت فى خطر شديد، نتيجة سدادها فواتير للطاقة تفوق بكثير أسعار التكلفة فى بعض الشرائح، علما بأن التكلفة هنا ليست معيارا كفئا للحكم فى ضوء احتكار الإنتاج والتوزيع، لأن المنافسة تحسّن من كفاءة العملية الإنتاجية وتخفّض التكاليف.
لذا تنعقد الآمال على مجلس الوزراء ولجانه الفرعية التى شكّلت لبحث معضلة تسعير منتجات الطاقة، واحتياجات المصانع كثيفة الاستهلاك، لتحقيق العدالة المنشودة ووقف تحويل الأرباح من الشركات ذات القيمة المضافة فى منتجاتها إلى شركات المنتج الخام، علما بأن الوقت يعمل فى غير صالحنا، والكثير من فرص الاستثمار تذهب بلا عودة حينما تصطدم بأسعار بعيدة كل البعد عن المتوسط العالمى، ناهيك عن توقف خطط الاستثمار فى توسّع ونمو الصناعات القائمة بالفعل نظرا لفشل دراسات الجدوى البنكية فى ظل سيناريوهات تكلفة الطاقة الحالية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف