محمد صلاح البدرى
"كورونا".. الذى يلهو بالعالم!!
لم يكن المريض الأول الذى يأتى بمثل هذه الأعراض للطبيبة الشابة فى استقبال المستشفى الجامعى الذى تعمل به.. فالشباب الذين يعانون من فشل كلوى حاد قد صار عددهم لا بأس به.. لم تجد صعوبة من شكل أنفاسه التى تخرج من صدره بصعوبة أن تتوقع -قبل ظهور نتيجة التحاليل- أنه يعانى من حموضة عالية بالدم تستدعى أن يجرى غسيلاً كلوياً فى الحال..!
بروتينية اكتسبتها من سنوات الخبرة القاسية طلبت له تحاليل الفيروسات السريعة لتحدد نوع الماكينة التى سيتم توصيله عليها لعمل جلسة الغسيل.. ثم التفتت لتمارس عملها بتلك النوبتجية التى تبدو على غير العادة هادئة بعض الشىء..!
لم تمض فترة طويلة حتى رن الهاتف على مكتبها.. لتسمع من الطرف الآخر ما جعلها تبدل رأيها بشأن النوبتجية تماماً..
لقد أظهرت التحاليل الفيروسية التى طلبتها للمريض الشاب أنه مصاب بمتلازمة نقص المناعة المكتسب.. أو الإيدز كما يحب العامة أن يسموه..!
لم يكن الخبر مرعباً لها لأنها تخاف المرض.. فقد استقر فى وجدانها منذ أن بدأت ممارسة هذه المهنة أن العدوى قدر.. ولكن الكارثة كانت أنه يحتاج للغسيل الكلوى بشدة.. وهى لا تمتلك ماكينة للغسيل الكلوى لمرضى الإيدز فى مستشفاها.. ستضطر للاتصال بمسئول مكافحة العدوى والعزل بوزارة الصحة ليتسلم الحالة.. ليرد عليها أنه لا يمكنه استقبال المريض فى العزل وهو بهذه الحالة لأنه ببساطة لا يمتلك عناية مركزة.. ولا يمكنه أن يستخدم ماكينة الغسيل الكلوى الخاصة بالإيدز للمريض قبل أن يرسل عينة للمعامل المركزية فى الوزارة لتؤكد التشخيص.. فالتحاليل السريعة غير مؤكدة.. ومع العلم أن النتيجة لن تظهر قبل يومين!!!
ساعات مرت وهى تحاول البحث عن حل لهذا الشاب دون جدوى.. قبل أن تتدهور حالته سريعاً.. ويلفظ أنفاسه أمامها دون أن تملك له شيئاً!!!
تذكرت هذه القصة -الحقيقية تماماً بالمناسبة- حين تابعت الإجراءات التى اتخذتها إدارة الطب الوقائى بوزارة الصحة لحماية مصر من فيروس كورونا الذى ظهر مؤخراً.. وفى هذا الصدد ينبغى أن أعترف أننا ندين بالفضل لفيروس إنفلونزا الطيور ومن بعده الخنازير اللذين ظهرا فى العقد الأول من الألفية الجديدة فى هذا الوطن.. فقد كان التعامل معهما الحجر الأول والأهم لتكوين كوادر على أعلى مستوى من الكفاءة فى التعامل مع الأوبئة والرصد والتتبع.. بل وفى صناعة الأمصال واللقاحات المختلفة.. حتى إننى أستطيع أن أقول إن مصر تمتلك فريقاً ينافس الفرق العالمية فى مكافحة العدوى والرصد الميدانى للأوبئة..!
المشكلة تكمن دوماً فى لوجيستيات العمل.. فالأمراض المعدية تحتاج إلى أماكن مجهزة للعزل والعلاج بعيداً عن باقى المرضى.. وتحتاج إلى معامل مجهزة متوافرة على مدار الساعة.. كما تحتاج إلى مستشفيات تم بناؤها بشكل معين ليتم عزل المرضى بها..
الإجراءات التى تمت حتى الآن لا بأس بها على الإطلاق باستثناء بعض التصريحات التى تؤكد أن مصر لن يدخلها الفيروس.. فدولة تستقبل عبر منافذها البرية والجوية والبحرية كل يوم آلاف البشر منطقى أن تصل إليها حالات بشكل ما -بل إن المنطقى والمقلق هو ألا يصل- كما أن قرار الرئيس بإعادة المواطنين المصريين من الصين لا يمكن النظر إليه إلا بفخر شديد بالانتماء لهذه الدولة الكبيرة.. ولكن المستشفى الذى تم تجهيزه للعائدين بمطروح -وبمعزل عن التضحية بأحد المستشفيات العامة وإخلائه بالكامل مع احتياج الإقليم له- ليس مستشفى «عزل».. ليس مجهزاً بالشكل الذى يحمى المرضى والأصحاء.. والأطباء أنفسهم..!
سيلهو «كورونا» بعض الوقت بالعالم كما فعل أشقاؤه منذ سنوات.. قبل أن يسيطر عليه الأطباء ويستأنسوه كما فعلوا من قبل.. ولكن ربما يصبح له الفضل فى تجهيز مستشفيات للعزل فى هذا الوادى الطيب بشكل علمى وبتوزيع منضبط على مستوى الجمهورية.. مستشفيات يمكنها أن تنقذ حياة هؤلاء الذين يصابون بكورونا.. وغيرهم الذين يصابون بالفشل الكلوى فى سن مبكرة!!