ترى، ما مجال حركة المثقف فى التعامل مع هذا الواقع؟!.. للإجابة عن هذا التساؤل يفتح الدكتور إدوارد سعيد قضيتين: قضية المراوغة السياسية، وهى فن مريب يكفل عدم اتخاذ موقف واضح لضمان البقاء والازدهار فى الوقت نفسه، والقضية المعاكسة التى تبلور ما يجب على المثقف الذى لا يقبل التكيف بسبب المنفى، ويختار أن يظل خارج التيار الرئيسى، مدافعاً عن مقاومته وحامياً لها من الاستقطاب الذى يفرغ مضمونها ويعوق أثرها!.. وهنا يحذر الدكتور إدوارد سعيد من وقوع المثقف تحت ضغط ما يواجهه فى براثن عرض مرضى مظهره أن فكرة الشقاء تسعده، وهنا ربما تحول المثقف إلى جعجاع هائج، أو إلى ظاهرة كلامية صوتية خالية من المضمون والفعل!
المزية المقابلة لوجود المثقف فى المنفى المجازى، أنه يكون أقرب إلى تبصر الأمور.. هذا هو الذى يقيه من اتخاذ موقف «هامشى»، وغير «مستوعب» فى بيئته، فيصير كالذى يقيم فعلياً فى المنفى، ويحدوه إيثار المخاطرة والتغيير على المعتاد المألوف، وإلى التجديد والتجريب، لا إلى الوضع الذى تمليه السلطة.. محفوزاً متحلِّياً بالشجاعة والجسارة اللتين تدفعانه إلى الأمام!
يقصد المفكر العبقرى، إدوارد سعيد، بـ«المحترفين الهواة»، الذى اتخذه عنواناً للفصل الرابع من كتابه: «المثقف والسلطة» تصنيف المثقفين تصنيفاً يعرف بالفارق بين المثقف المحترف الذى قد يدفعه أو يحكمه أو يؤثر فيه احترافه ودواعيه، وبين المثقف الهاوى الذى لا يفيده شىءٌ من الاعتبارات التى تحيط بالمحترف.
يبدأ إدوارد سعيد هذا الفصل باستعراض كتاب بعنوان «معلمون وكتاب ومشاهير: المثقفون فى فرنسا الحديثة» للمفكر الفرنسى ريجيس ديبراى. فكرته أن المثقفين الباريسيين فيما بين عام 1880 و1930، كانوا مرتبطين أساساً بجامعة السوربون، لاجئين علمانيين فارّين من بطش الكنيسة والنزعة البونابرتية، وفى حماية لقب الأستاذ والعمل فى قاعات الدرس والمختبرات والمكتبات، يستطيعون إحراز المراد للمعرفة الإنسانية فى ظل هذا الاحتراف، بيد أن «السوربون» بدأت تفقد سلطاتها تدريجياً بعد عام 1930، وانتقل مركز الثقل إلى دور النشر الجديدة التى وفرت «مأوى» لهذه «الأسرة الروحية» من المثقفين المحترفين، أمثال: سارتر، وسيمون دى بوفوار وألبير كامى ومورياك وأندريه جيد وأندريه مالرو وغيرهم ممن صاروا يمثلون الفئة المثقفة التى حلت محل فئة الأساتذة الجامعيين. ثم منذ نحو عام 1968 طفق المثقفون يتركون «حظيرة» دور النشر إلى أجهزة الإعلام الجماهيرية كالإذاعة والتليفزيون، التى أحاطت طبقة المثقفين المحترفين بالجماهير التى صارت بدوائرها الواسعة المصدر المؤثـر للشرعية الفكرية.
والوضع الذى تحدث عنه «ديبراى» فى كتابه، مصبوغ بالصبغة المحلية فى فرنسا،
ولا ينطبق بالضرورة على غيرها من البلدان، فماذا يريد إدوارد سعيد؟. نراه ينتقل إلى محوره الرئيسى فى رسم صورة وتصنيف المثقف، وينبه إلى أن التركيز فى رسم الصورة ينبغى أن يميز بين صورة المثقف الفرد من ناحية فرديته، وبين المجموعة أو الطبقة التى ينتمى إليها الفرد. هذا التمييز هو الذى يعطى المؤشر الحقيقى فى توقعاتنا لخطاب المثقف، هل هو رأى مستقل صادر عن الفرد، أم يمثل حكومة أو تنظيماً أو حزباً أو قضية أو جماعة من جماعات الضغط.
تتصل بهذه القضية مساحة حرية المثقف ومقدار استقلال رأيه وبعده عن أى ألوان للضغوط، لذلك فهى تستغرق مساحة كبيرة من تجوال إدوارد سعيد الممزوج بأمثلة واقعية فى الحاضر وفى الماضى القريب.. تتجلى فيها ثقافة الكاتب الأدبية والنقدية، وقوة عارضته، وكثرة اطلاعاته.
أحب أن أتوقف معه ومعك عند ما نقله الفيلسوف الإنجليزى الشهير برتراند راسل، ففى اللحظة التى نادى فيها «سارتر» بأن يتمتع كل فرد بحرية اختيار مصيره، فإن الأوضاع الحالية تحول دون الممارسة الكاملة لهذه الحرية. على أنه يستدرك بقوله إنه من الخطأ رغم هذا القول بأن البيئة والأوضاع هما اللذان يحددان وحدهما مصير الكاتـب أو المثقف.
على أن «سارتر» لم يقل فى كتابه «ما الأدب» الذى يقتطف إدوارد سعيد بعض عباراته. لم يقل إن المفكر أو المثقف فى منزلة الفيلسوف الملك المنعزل، بل هو على العكس يخضع دائماً لمطالب مجتمعه، ويتفاعل ويتجاوب معها.
والضغوط التى تحاصر المثقف أو المفكر أو الكاتب بعامة، هى ضغوط متنوعة الأسباب والظروف ما بين التخصص والمهنة، وضغوط الاحتراف، وضغوط السلطات، وقيود النشر ومساحاته وإطار المسموح وغير المسموح فيه.. وعلى هذا فإن المشكلة التى يواجهها المثقف أو المفكر متعددة الوجوه ومتنوعة الأبعاد، وواجبه أن يحاول التعامل معها بما يحفظ له حريته إزاء ما يلقاه من ضغوط وحصار!.. لا غنى للمثقف عن الصدق مع نفسه ومع الآخرين فى خطابه، وعن أن يحفظ لنفسه حريتها فى مواقفه وفى خطابه للسلطة!
«قول الحقيقة للسلطة»، هو عنوان الفصل الخامس لكتاب المفكر العربى الكبير إدوارد سعيد. وفى هذا الفصل يفتح المؤلف قضية بالغة الأهمية، مدخلها أنه كالمعتاد فى أى مهمة فردية أو جماعية أو مجتمعية، فإن الموكولة إليه أو إليهم، يختار أو يختارون للمعاونة من يشاركون فى الولاء وفى الآراء وفى اللغة نفسها، وهو ما يجرى وربما بمقاييس أكثر صرامة فى عالم السلطة والسلطان. فماذا يفعل المثقف إن جاء احترافه المهنى وسط هذه المنظومة التى تؤدى بمقاييس الولاء للسلطة، وتلتزم بآرائها وتوجهاتها وسياستها ولغتها.
لا مشكلة إذا تخلى المحترف عن عطاء المثقف، فهو سينضوى، وبلا حرج، فى المحيط الذى وضع فيه، يعزف ذات الألحان ويتكلم ذات اللغة، فماذا لو أراد أن يستمسك بصفات المثقف الحقيقى؟!. إن الإغراء بتعطيل الحاسة الأخلاقية والانحصار فى التخصص الدقيق، وفوائد مجاراة التيار إغراء كبير، يضمن السلامة والصعود والترقى، ويغلق أبواباً تحمل رياح المتاعب! والكثير من المثقفين يخضعون خضوعاً تاماً لهذه الإغراءات؟
ربما كانت الإجابة القريبة، وتواصلاً مع ما سبق أن أبداه الدكتور إدوارد سعيد عن الهواية والاحتراف، هى إيثار الهواية وحرياتها على الاحتراف وقيوده. ولكن الاحتراف فى العمل والوظيفة وما شابه يكاد يكون أحياناً من ضرورات الحياة! هنا يطرح الدكتور سعيد تجربته الشخصية العملية، وكيف رفض أن يعمل مستشاراً يتقاضى أجراً تحاشياً أن يقتصر على من استوظفه وعلى لغته السياسية المستخدمة، وكيف أمكنه لحماية أفكاره وآرائه أن يفضل المحاضرات الجامعية على مـا عداها، وأن يقبل الحديث فى المناسبات للجماعات الفلسطينية أو الجامعات فى جنوب أفريقيا المناهضة للفصل العنصرى والمناصرة للحرية الأكاديمية، وكيف ارتأى أن دراسته «المهنية» للأدب، لا تلزمه بالابتعاد عن شئون السياسات العامة، وكيف أن «هوايته» للشأن العام حفزته دوماً على تجاوز حياته العملية المهنية إلى الرحاب العامة التى يدلى فيها بما يشاء، متخففاً من قيود الاحتراف.