مجاهد عبدالمتعالي
أهل القيم بين الادعاء والحقيقة
ما القيم؟ وكيف نستعيد المعنى الحضاري لكلمة القيم؟ ولنبدأ بقول آخر: لماذا قيل: (رأينا في الغرب إسلاما ولم نر مسلمين؟)، ببساطة شديدة لأن قائلها ارتطم بحقيقة القيم الموجودة في الغرب، فالقيم تنقسم إلى ثلاثة أقسام (الحق، الخير، الجمال) ولا توجد حضارة تتحدث وتفاخر بقيمها دون أن تقدم لهذه الأقسام الثلاثة ما يضيف للإنسانية مزيدا من (الحق والخير والجمال).
لنبدأ بالسؤال الذي نطرحه على صحوي قديم ونسأله: ما الذي قدمته الصحوة لقيمة (الجمال) ليجيبك بأن الجمال جمال الروح، وعندما تسمع هذه العبارة تدرك فورا أنه يعاني نقصا حادا في معايير الجمال، وفهم الجمال، فيهرب إلى مسائل معنوية لا يمكن قياسها ولا ضبطها ليعيش غيبوبة (الرضا)، بعيدا عن شمس (السعادة) في معرفة قيمة الجمال، التي تظهر في العناية بالفن بجميع أنواعه، والذي ينعكس على كل ما حولنا، من تصميم الأقلام إلى تصميم الساعات اليدوية وصولا إلى تصميم مقاعد الطائرات مرورا بهندسة المدن، هندسة المباني، ديكور المنازل، جمال الملابس، جمال الشوارع، الحدائق، بعيدا عن التلوث البصري، ومثله التلوث السمعي الذي لا ينصرف دون وعي موسيقي، ذلك الوعي الذي يحمل في حقيقته الجمالية عناء (ترتيب الصوت في الزمن) تلك باختصار هي الموسيقى (ترتيب الصوت في الزمن)، لنجد كل ما حولنا يهمس موسيقى وغناء، بدءا بالسلام الملكي على ألسنة الطلاب في المدارس كل صباح، وصولا إلى حفل أوبرالي يفكك فيه أبناؤنا معنى الجمال في الصوت من خلال معرفتهم بأبجديات (قراءة النوتة الموسيقية)، يكفينا من كل مئة إنسان أن يوجد واحد له فهم بالمقامات وقراءة النوتة الموسيقية، لكن حتى هذه النسبة مع تاريخ الصحوة القاسي حرمنا من وجود (قارئ نوتة) يستطيع أن يحفظ فلكلور أهله من الضياع عبر تحويل مواويلهم ولحن عرضاتهم إلى نوتة مكتوبة تحفظها من الضياع.
الجمال أحد أثافي القيم الثلاث، فكيف نشعر أننا أصحاب حضارة ونحن فقراء في هذا المجال، أتأمل معظم ما حولي ويثير أحاسيس ومتعة الجمال فأجده مستوردا، ولم يبق في عقل الصحوة من معنى للجمال سوى الانشغال بهستيريا (الجمال الأنثوي)، كحالة لا يرون فيها سوى الفتنة والعيب والعار، فيسألك أحدهم: هل رأيت كيف تعامل المسؤول بلطف مع المرأة، إنها الفتنة!!، فتكره أسلوب تفكيره وتعيد محاولة تهذيبه وتذكيره أن المسألة لا علاقة لها بأوهام الصحوة بقدر ما فيها من طبيعة متسامحة فطريا، فحتى ابنتك تردها بلطف أو توافق لها بخلاف ابنك الذي لن تفكر بأي لطف في رده أو الموافقة على طلبه، فهل يعني هذا أنك أب مهووس جنسيا بابنتك عندما كنت لطيفا معها (هوس الصحوة الذي أفسد تلقائية الناس في التعامل مع بعضهم، بل مع أبنائهم وبناتهم).
الجمال من أهم القيم التي اهتم بها العالم شرقاً وغرباً، والصحوة ما زالت تختزل الجمال في كل دلالات الفتنة وعقدة الذنب، لترى هذه القيمة مستهجنة، لتبقى الجدران خالية من اللوحات والتحف، إلا عبر استدراكات الخط العربي وجمالياته كحالة جمالية يتيمة لا يسمح الصحويون إلا بها، وما عدا ذلك فكفر وانحلال وتشبُّه بالكفار في وجود التماثيل (فن النحت يربك الصحوة وتعتبره صناعة أصنام، حتى المانيكان (دمية عرض الملابس) يجب أن تبقى مقطوعة الرأس؟!!).
انتهت مساحة المقال في قيمة الجمال فقط، وسأختزل قيم الحق والخير في تساؤلات سريعة، الأولى تخص (الحق) كأحد أركان القيم الثلاث والتساؤلات هي: أوجد العالم المتحضر الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، ونص الميثاق موجود في موقع الأمم المتحدة بكل اللغات، فما المادة التي طرحها الميثاق العالمي لحقوق الإنسان وتنص على أن المسيحي في بلد أغلبيته مسيحية له حق معاملة مسلم من أبناء بلده كمواطن من الدرجة الثانية أو (طرش بحر)، وما المادة التي توجب قتل الهندوسي لأنه قرر أن يصبح مسلما شيعيا أو العكس؟ وما المادة التي تسمح بإعلان الكراهية والتعصب ضد عرق أو لون أو طائفة؟ فهل نحن مشاركون فاعلون في هذا المعيار العالمي، أم ما زلنا نلوك أزماتنا التي تبدأ (بالتفريق لعدم تكافؤ النسب) ولا تنتهي عند (الاحتراب الطائفي).
أما ثالثة الأثافي في القيم (الخير) والتساؤلات السريعة حياله فتتلخص في: كم عدد فقراء العالم الإسلامي مقارنة بفقراء الأمم المتحضرة، بل كم عدد جمعيات الرفق بالحيوان؟ وكم عدد جمعيات العناية بالبيئة؟ وكم عدد جمعيات دعم الأبحاث الطبية وكم مؤسسات المجتمع المدني في كل مجال نتخيله ولا نتخيله وكم وكم... إلخ مما لا نجد له جوابا إلا برمي عجزنا على العالم رغم أنه يصدق فينا قول الشاعر: ولم أر في الناس عيباً كنقص القادرين على التمام، وأول التمام إدراك موقعنا من الحضارة الإنسانية والاعتراف بما أنجزناه والوثوب بهمة إلى ما لم ننجزه، دون تعامٍ أحمق بأننا مصدر القيم (الحق والخير والجمال) بل التواضع، ثم التواضع بكل شرف وكرامة، وشتان بين التواضع الرفيع النبيل والوضاعة في كبريائها الكاذبة المزيفة.