ياسر عبد العزيز
ما لا يُقال عن معارك التراث
فى كتاب «دليل المرأة الذكية إلى الاشتراكية والرأسمالية»، الذى صدر فى لندن عام 1928، كتب جورج برنارد شو ما يلى: «عليك أن تحررى عقلك تماماً من الوهم الذى نشأنا معه جميعاً فى طفولتنا، وهو أن المؤسسات التى نعيش فى ظلها أصلية وطبيعية، شأنها شأن أحوال الطقس، فهى ليست كذلك بطبيعة الحال».
خلال بضعة أجيال فقط، حدثت تغيّرات ما كان أحد يتخيل أنها من الممكنات. يعتقد أطفال أيامنا هذه أن أموراً من قبيل قضاء تسع سنوات فى المدرسة، أو تلقى معاش للمسنين والأرامل، أو حق الانتخاب للنساء، أو وجود النساء بتنورات قصيرة فى البرلمان، كلها جزء من النظام الطبيعى، وإنها لطالما كانت وسوف تظل دائماً؛ لكن جدات أمهاتهن وآبائهن قد يصرحن بغير ذلك، وبأنه لو أن شخصاً ما قال لهن إن مثل تلك الأمور سوف تُستحدث لاعتبرنه مجنوناً، ولو أن شخصاً أراد لتلك الأمور أن تُستحدث آنذاك لاعتبرنه خبيثاً كريهاً».
يُعد هذا الكتاب من أعظم الأعمال الأدبية والسياسية التى صدرت فى بدايات القرن الفائت، ليس فقط لأن كاتبه هو برنارد شو، ولكن أيضاً لأن الكتاب انطوى على خبرة وتجارب عميقة، وسعى إلى التماس وسائل معرفية فعّالة لمقاربة مفاهيم مهمّة فى هذا العالم، وهو الأمر الذى رفد تلك المعالجة الثقافية الرفيعة بأسباب التأثير والاستدامة.
فى عودة إلى ذلك الاقتباس مما كتبه برنارد شو قبل نحو القرن، ستظهر بعض الأسئلة التى يمكن أن تُثار على جانب تلك الإطلالة التاريخية؛ فألا تعتقد مثلاً أن ما كُتب فى هذا السياق الأوروبى قبل أكثر من مائة عام يمكن أن يُكتب الآن لدينا فى غير دولة من دول الشرق الأوسط؟ وهل تدرك مثلاً أن الحديث عن تمترس المؤسسات وهيمنتها يشبه بدرجة كبيرة ما يجرى لدينا؟ وأخيراً: ما المبحث العلمى الذى ينتمى إليه هذا العرض؟
سأترك الإجابة عن السؤالين الأول والثانى لك، لكن فى ما يتصل بالسؤال الثالث، ثمة ضرورة لتحرير الإجابة؛ إذ يعتقد علماء الأنثربولوجى الغربيون أن مثل هذا الحديث يندرج ضمن مبحث «التغيير الثقافى»، فيما يرى علماء الاجتماع أنه يتعلق بـ«التغيير الاجتماعى»، والواقع أن المدارس الأكثر حداثة ترى أنه تغيير ثقافى واجتماعى فى آن Socio- Cultural Change.
إنه تغيير ثقافى واجتماعى إذاً، إذ تجرى تعديلات تشهدها الثقافة على مر الزمن، فتتأثر الأفكار، والقيم، وتتجاوب المؤسسات، والبنى الاجتماعية الحاكمة، ويتغير المجتمع.
أليست الثقافة من صنع الإنسان؟ أليست القيم والتصورات الدينية والاجتماعية من أهم عناصر الثقافة؟ ألا يقبل الناس عناصر الثقافة الجديدة إذا تأكدوا من فائدتها وقدرتها على الاتساق مع البيئة الاجتماعية والأخلاقية السائدة؟ ألا ينعكس هذا التغيير الثقافى فى تغيير اجتماعى؟ ألا يصل هذا إلى السلوك، والقوانين، والممارسات العامة والخاصة، والفن، والأدب، والتعليم.. بل والتصورات الدينية؟
لذلك، يمكننا أن نفهم الآن لماذا كانت عماتنا وخالاتنا قادرات فى الخمسينات والستينات الفائتة على ارتداء التنانير القصيرة، وترك الشعر منسدلاً، وحضور مباريات كرة القدم من دون رهاب، مقارنة مع شقيقاتنا اللاتى اضطررن فى السبعينات والثمانينات إلى ارتداء الحجاب والإسدال والنقاب، تحت وطأة تغيير ثقافى، أثمر سلطة مؤسسية، وشروطاً اجتماعية، وبيئة متطلبة لمقتضيات المواءمة.
ينطبق هذا أيضاً على الحالة فى بعض بلدان منطقة الشرق الأوسط، التى تراجع أوضاعاً بدت راسخة للملبس، والاختلاط، وحقوق النساء، وحرية مقاربة النقد الدينى، واجتراح الفنون.
يقول رالف بيلز، المنظر الثقافى الشهير: إن «الثقافة أم الاختراع»، باعتبار أن التغيّرات الثقافية الحاكمة تؤدى إلى مخترعات تلبى استحقاقاتها، وهو ينضم إلى جملة من العلماء الذين اهتموا ببحث هذا الأمر، وخلصوا إلى أن بعض أهم أسباب التغير الثقافى يكمن فى التطور الاقتصادى، أو ظهور المخترعات الحديثة.
ويمضى هؤلاء فى تفسير حجتهم، معتبرين أن أربعة اختراعات كبرى مثلت عنواناً لتغيّر ثقافى كبير شهدته أوروبا؛ وهى: الورق، والطباعة، والبارود، والبوصلة؛ إذ أمنت هذه المبتكرات التواصل والتبادل والتوسّع والانتقال.
من جانبى، لا أميل إلى تجريد فكرة التغير الثقافى - الاجتماعى من أثر السياسة، بل ربما أذهب إلى ما هو أبعد من ذلك؛ إذ يبدو أن المؤسسات السياسية قادرة على إحداث هذا التغيير إذا أرادت وامتلكت الرؤية والعزم، من دون أن يعنى هذا أن الأمر سهل أو أن النجاح مضمون.
لقد حدث هذا فى تاريخ العالم وتاريخنا كمصريين كثيراً؛ فقد راحت أديان وأتت غيرها، وراحت مذاهب وأتت غيرها، وراحت ممارسات اجتماعية وأتت غيرها، ونشأت مؤسسات وانهارت مؤسسات، عندما أرادت السياسة ذلك، ومضت فى طريقها بعزم وإصرار.
فى كتابه البديع «نقد التراث»، يدافع عبدالإله بلقزيز بقوة عن مكانة التراث فى الوعى الجمعى للأمة العربية، وهو يرى أن الانقطاع التام عنه لا يستند إلى تبرير مقنع، كما يعتقد أن التراث ليس معطى متحفياً، بل حقيقة وجودية، تمارس سلطاناً على المؤسسات والأفراد والعلاقات.
فى فترات الانتقال بين البنى الاجتماعية التقليدية والبنى الأكثر حداثة ومعاصرة أو العكس، يبرز الحضور الطاغى للتراث، ويتم طرحه كموضوع الساعة، ويظن البعض أن البخارى ولد تواً، أو أن قضية إرضاع الكبير ظهرت اليوم، أو أن جدلية النقاب وليدة الساعة، بينما الأمر مختلف، وهو لا يعدو أن الإرادة السياسية التى ابتغت انتقالاً اجتماعياً معيناً تصادمت مع إرادة البنى التقليدية أو الحديثة، التى تعرف أن رأسمالها المعنوى والمادى مستمد من نفاذ تأويلها الخاص للتراث، والتى تعتقد أن مصالحها، بل وجودها نفسه مرهون بتسييد قراءة محددة لهذا التراث.
وهنا يشهد عوام الصراع، وينخرط عوام فيه، وتنقسم النخب، وتتحارب، باعتبار أن المسألة تخص قيمة ثقافية أخلاقية معنوية، بينما الصراع يحتدم حقيقة على امتلاك رأسمال عملية التغيير الاجتماعى المطلوب إحداثه.
هنا يشير «بلقزيز» إلى دور ما سمّاه بـ«استراتيجية السلطة»، وهى سلطة غير معرفية أو ثقافية، إنما سياسية؛ إذ تكمن وراء الصراع مصالح واستراتيجيات وسياسات.
لقد حدث هذا على مر التاريخ، وفى فجر التحولات الكبرى، لكن أكثر الناس لا يعلمون.