حسين القاضى
ضَوابط بلا تجديد.. وتجديدٌ بلا ضَوابط
خلاصة الكلام فى معنى تجديد الخطاب الدينى أنه: إزالة المفاهيم المغلوطة، والتأويلات المنحرفة التى التصقت بالدين، ورفض الاستدعاء العاجل الحماسى الخاطئ لآيات القرآن فى غير ما قصدت إليه، وإعادة إبراز مكارم الشريعة، وسمو أخلاقها، ورصانة علومها، لكى يرجع الدين نقياً ساطعاً جميلاً راقياً، يرى الناس فيه الهدى والسكينة والعلوم والمعارف والحضارة والذوق والجمال والنهضة.
ولهذا الأمر قامت مؤتمرات وندوات من المؤسسة الدينية، واستُقدم للمشاركة فيها علماء من شتى أنحاء العالم، وكثرت هذه المؤتمرات، حتى إن الدكتور المرحوم «محمود الطناحى» الذى شارك فى مؤتمر بعنوان: «التجديد فى العلوم العربية والإسلامية» سنة 1995م، أى منذ حوالى 25 سنة، كتب يقول: «كثرت المؤتمرات فى السنوات الأخيرة كثرة ظاهرة، ولو أن إنساناً شغل نفسه بتتبع هذه المؤتمرات فتأمل الأوراق المقدمة لها، والتوصيات التى انتهت إليها، لوجد تشابهاً واضحاً بين هذه وتلك، فالقضايا هى القضايا، والتوصيات هى التوصيات، (وربما الفندق هو الفندق)، والمشاركون يُشَرِّقون ويُغَرِّبون، وتأتى كلمة التجديد بلمعانها وبريقها، وربما تجد اختلافاً فى كيفية المعالجة، لكن الجوهر هو هو»، على ما قال الشاعر:
عباراتنا شتى وحسنك واحد.. وكل إلى ذاك الجمال يشيرُ
والذى نلاحظه أن مؤتمرات المؤسسات الدينية، وآخرها مؤتمر الأزهر الأخير، تجد فيها بحوثاً غاية فى العمق والدقة والتأصيل والضوابط العلمية والمنهجية، بصرف النظر عن أن الأفكار التى يدور حولها المؤتمرون فيها الجديد وفيها المكرر المتشابه، لكن فى كل الأحوال فإن المؤتمرات الأزهرية تتميز أكثر بحوثها بالتأصيل العلمى، وتوصياتها مهمة للغاية.
ويبقى السؤال: هل هناك أى علاقة بين هذه الضوابط وبين التجديد نفسه على أرض الواقع؟، بمعنى أن هذا التجديد الذى تقوم به المؤسسات والذى يتسم بالضوابط هل وصل إلى أى حد من القائمين على مخاطبة الجماهير من أئمة المساجد والوعاظ ومدرسى المعاهد الأزهرية وأعضاء هيئة التدريس بجامعة الأزهر؟ الإجابة بالنفى قطعاً.
التجديد فى المؤسسة الدينية يتميز بالانضباط العلمى، لكن الأبحاث أو التوصيات التى انتهت إليها المؤتمرات لا تصل إلى القائمين بالخطاب الدينى نفسه، بل أغلب الظن أن بعضاً من المشايخ القائمين بالتعامل مع الجماهير فى الخطب ودروس الوعظ قد ينظرون إلى تجديد الخطاب الدينى على أنه هدم للدين، وأنه أمر مسيس، خاصة أن المؤتمرات قديمها وحديثها تبدأ بعبارة (بناء على توجهات السيد رئيس الجمهورية)، أو تبدأ بعبارة (الشكر لرئيس الجمهورية راعى المؤتمر)، مع أن التجديد لا علاقة له بالسياسة أصلاً، لأنه كما قال فضيلة شيخ الأزهر نفسه «مُسَلَّمةُ التجديد إلا لم تكن هى والإسلام وجهين لعملة واحدة، فإنها على أقل تقدير إحدى مقوماته الذاتية، إذا تحقق تحقق الإسلامُ نظاماً فاعلاً فى دنيا الناس، وإن تجمدت تجمد وانسحب من مسرح الحياة، واختزل فى طقوس تُؤدَّى فى المساجد أو المقابر، وتاريخ الإسلام يشهد لهذه العلاقة بين التجديد وحيوية الإسلام».
هذا كلام جيد منضبط من إمام كبير، لكنه لم ينزل بعد إلى واقع المناهج التى تدرس فى المعاهد والجامعة، والخلاصة أننا أمام ضوابط وكلام جيد دون تجديد حقيقى.
وأما الطرف الآخر الممثل فى بعض العلمانيين أو بعض المثقفين فهؤلاء يبذلون جهداً كبيراً من أجل التجديد وتنقية التراث، يفعلون ذلك على أرض الواقع فى مواقفهم من القضايا المختلفة، لكن آفة هؤلاء أنهم يُقدِّمون تجديداً بلا أسس أو ضوابط أو قواعد أو منهج أو تأصيل، وهكذا أصبحنا بين انضباط بلا تجديد، أو تجديد بلا انضباط.