تقديم العزاء لأهل المتوفى هو واجب إنساني وأخلاقي.. وبذهاب الناس لتقديم واجب العزاء يشعر أهل المتوفى براحة لقدوم الناس ليقفوا بجوارهم في مثل هذه المواقف الصعبة
ويعوضهم حب الناس عن فقدان هذا الشخص العزيز عليهم، ولكن ما يحدث أشبه بالتجارة في سرادقات العزاء من اختيار مشاهير القراء، للتصوير، لولائم الرحمة، لآلاف الجنيهات للإعلان، وفي ظل الازدحام أصبح الوصول للعزاء شاقًا وصعبًا وطويلًا، والكارثة في الأهالي الذين يتحملون مشقة السفر من الأقاليم.
وبعد أن أصبح العزاء مناسبة اجتماعية يتجمع الأهل والأصدقاء وزملاء الطفولة والدراسة، وتبدأ أحاديث وذكريات العمر؛ وكأنهم في النادي، وبعض السيدات ينتهزن الفرصة لعرض آخر ما اشتروه من أحذية وشنط، أو آخر ما وصلت إليه من جمال بعد آخر عملية نفخ وشفط وفيلر وبوتوكس، وكأنهن في حفلة "وبيروحوا العزاء ولا أجدعها.." ولولا اللبس الأسود لبدا مشهدهن وكأنهن في فرح، ولو كان العزاء لشخص مشهور أو قريب لمسئول يتجمع المارة لرؤية المشاهير والتصوير معهم.
أما المعزون.. فلا مانع من التلكوء عند الدخول لكي يتمكن المصورون من تصويرهم من جميع الزوايا.. أو إظهار الحزن المبالغ فيه لكي تكتب المواقع عن دموعهم.. أو نظارة سوداء كبيرة لتخفي الدموع مع أن مكياجها فول ميك آب، ولن تذرف دمعة خوفًا من مسح "الماسكارا".
وأصبح أمرًا عاديًا الثرثرة أثناء قراءة القرآن، أو ترك التليفون يرن بنغمة أغنية عمرو دياب الأخيرة، وبعدها يتم الرد والنقاش مع المتصل، وقبل ما يختم المقرئ وتشعر الناس أنه اقترب من صدق الله العظيم يتهيئون للخروج.
يقومون ويتجهون للخروج في سباق للتسجيل مع القنوات والرد على السؤال السمج عن علاقته بالمتوفى ثم هذا الكم الهائل من المصاحف والكتيبات الدينية التي توزع في أغلب السرادقات، أكيد أنها شيء طيب، ولكن هل تستخدم؟ أم أنها تخزن ولا ينتفع بها؟ وإنما يستمر القائمون على السرادقات على حث أهل المتوفى عليها لأنها مجرد "سبوبة" لبعض الناس، خاصة أن مصحف واحد بالمنزل يكفي وآخر على التليفون يكفي للرجوع إلى القرآن الكريم في أي وقت وفي أي مكان؛ لأن عصر الكتب المطبوعة بدأ يندثر، وبدأنا نتحول إلى المستندات الرقمية؛ لذلك فمن الممكن طباعة عشر تلك الكميات، وتركها لمن يريد نسخة، والتصدق بباقي ثمنه، ويقول الفقهاء ليس لقراءة القرآن على الميت أو على القبر أصل صحيح، بل ذلك غير مشروع، بل من البدع، وكذا وضع المصحف على بطنه ليس له أصل، وليس بمشروع، وإنما ذكر بعض أهل العلم وضع حديدة أو شيء ثقيل على بطنه، بعد الموت حتى لا ينتفخ، ولا يجوز للمعزين أن يقيموا الولائم للميت، لا في اليوم الأول ولا في الثالث ولا في الرابع ولا في الأربعين أو غير ذلك، هذه كلها بدع.
مع أن الأصل في العزاء أن يكون بعد الجنازة ، ومن لم تسعفه الظروف حضور الجنازة ، فيمكنه المرور بباب أهل المتوفى ليبلغهم بعزائه ويدعو للمتوفى ويعرض مساعدتهم ما استطاع، وليس أن يدخل عندهم ليرهقهم باستضافته؛ بل إن السنة أنه هو الذي يأخذ لهم الطعام والشراب ليغنيهم عن المجهود في هذه الظروف، وفي وقتنا الحالي فإن المرور بباب أهل المتوفى يغني عنه اتصال أو رسالة على التليفون، إما سرادقات العزاء ، فتلك عادة اجتماعية، لا علاقة لها بالدين، نأخذ منها ما يتناسب مع ظروفنا ونترك ما لا يناسبنا، فإن كان الأفضل لأهل المتوفى أن يحددوا وقتًا ومكانًا لتلقي العزاء خلال الأيام الثلاثة التالية للوفاة، فلا غبار على ذلك، طالما لم نخالف أوامر الله في عدم التبرج أو الإسراف بغرض الظهور أمام الناس.
الخلاصة، الموت هو الحقيقة الوحيدة الثابتة في هذه الحياة وفرصتنا لنتعظ ونعتبر، لذلك يجب ألا نلهي أنفسنا بتفاصيل لا جدوى لها لتصرفنا عن التدبر في هذه التذكرة الربانية.