رجائى عطية
كيف تراكم الفقر والتعاسة؟ (1 - 2)
إلامَ ترجع الدقة فى تنفيذ التعهدات والاتفاقات والعقود فى التعامل المادى بين الناس؟ وهل ترجع إلى أساس أخلاقى أو دينى مما تحث عليه الأخلاق والأديان، أم أن الغرض المطلوب من هذه الدقة هو ضمان استمرار التعامل وانتظامه والحد من احتمالاته ومخاطره؟ إذ بدون هذه الدقة يصبح التعامل مجازفة ومخاطرة ليس لها حدود ولا ضوابط.. مفتوحة على مصراعيها لنهب النهَّابين واحتيال وخداع النصّابين وخطف الخطّافين واللصوص!
المقطوع به أن شيوع هذا أو طول حصوله، يخلخل الجماعة وقد يقوض بقاءها.. إذ يقهر الكثرة غير القادرة على مقاومة الخطافين والنهابين والنصابين وألاعيبهم وحيلهم ومخادعاتهم، ويجبر هذه الكثرة إجباراً على التفرق بحثاً عن جماعات أو مجتمعات أخرى يكون فيها التعامل المادى اليومى العادى على درجة معقولة من الأمان والانتظام اللذين لا يستغنى عنهما استقرار التعامل والأحوال.. وهو ما لا غناء عنه لحياة عموم البشر.
وهذا الافتراض مبنى، كما نلاحظ، على استقرار الأحوال فى الجماعة، فإذا اختلت انعدمت ثقة الناس بعضهم فى بعض، ولجأوا إلى الإسراف فى المزيد من الضمانات لتأمين الوفاء بالعهود والاتفاقات والعقود.. من رهون وكفالات وتوثيق واشتراطات جزائية وتعويضية والانحراف بالشيكات من أداة وفاء تجرى مجرى النقود إلى أداة ائتمان، والتوسل بهذه الحيل، ومثلها إيصالات الأمانة التى تخالف الواقع لجعل التهديد بالحبس سلاحاً لإرهاب الملتزم للوفاء بالتزامه المدنى الاتفاقى أو التعاقدى الذى لا علاقة له بالقانون الجنائى وما يفرضه من عقوبات ليس هذا مجالها.. وحين يزداد هذا الاختلال، وكثيراً ما يحدث، يتفشى انعدام الثقة وتصير أمثال هذه التأمينات غير كافية لضمان الوفاء، ولسيولة التعامل، فترتبك الأسواق، وتتعثر المشروعات، وترتفع الأسعار، ويؤدى الحرص على الوفاء الفورى لتلافى مخاطر الآجال، يؤدى إلى تراجع التفكير فى المشروعات الكبرى طويلة الأمد، والتى لا سبيل لنجاحها ونموها إلاّ فى ظل الأمان والاجتهاد والدقة.. وهذا بذاته يدفع أيضاً إلى المزيد من التهاب الأسعار واستحكام الغلاء وشيوع المضاربة والمضاربين والمجازفين والمتلاعبين فى الأسواق وفى الصناعات والمصارف.. وتفقد الزراعة دورها الضرورى، ويستمر ارتفاع الأجور التى يلتهمها التضخم وانخفاض القوة الشرائية للنقود، ويعجز العاملون عن ملاحقة ارتفاع أسعار السلع وتكاليف المعيشة فتتفاقم المشكلات الاجتماعية بأنواعها إلى جوار المشكلات الاقتصادية.
وهجرة الناس من بلدهم فراراً من شدة الضائقة فيها عارض من قديم فى ماضى الآدميين وحاضرهم.. وهذه الهجرة ما زالت حتى اليوم شاقة مع ضيق ذات اليد، وبرغم ذلك نرى كل يوم جماعات من الشباب يبتلعهم اليم فى مجازفات غير آمنة للوصول إلى هجرة غير مشروعة أجبرتهم عليها الضائقات المستحكمة التى عزت إزاءها لقمة العيش ناهيك عن المسكن والملبس وتكوين الأسر ونفقات العلاج والتعليم.. وما زالت هذه الضائقات التى رأينا عوادمها فى العشوائيات وفى مقالب الزبالة وأطفال الشوارع ما زالت تتفاقم وتتتابع أصداؤها وآثارها فى هلاك الكثيرين من الأطفال والنساء والشيوخ.. بسبب التشرد والمجاعات والأوبئة التى لم تنقطع فى كثير من بلدان العالم الثالث.. ونعانى منها غير قليل فى بر مصر!!
وبقاء من قاوم هذه الضائقات الشديدة، وبقى على قيد الحياة فى بلده بلاء اعتاده هؤلاء وسلموا بوجوده وبما تتركه شدة الفاقة فى الأجسام والنفوس والعادات، وفى الذرارى والأجيال من الضعف أو الخمول أو التخلف.. وتمثلت آثار ذلك فى الانصراف إلى الأعمال والحرف الصغيرة بل وفى ابتداع خدمات لا تتطلبها حاجة بقدر ما يدفع إليه الفقر والبطالة من بحث عن أى سبيل للقمة العيش بدلاً من الانحراف وسلوك سبيل الجريمة.. وتظل هذه البيئات بما تعانيه من فاقة وضوائق شديدة أو ما تدرج عليه من العادات المتخلفة، تظل بؤرات للانحراف وللمجاعات والأوبئة.. يصعب التخلص منها بمعونة من داخلها حال دوام تسلط الحكام والزعماء وحرصهم على امتيازاتهم ومغانمهم.. ولا يجد أبناء هذه البؤرات بداً من أن يحملوا الفاقة وآثارها على عاتقهم، وأن يستسلموا لمعيشة الفقر والجهل متلازمين لا يفترقان.. حتى ليستحيل أن تنجو هذه البيئات من بؤس وتعاسة ما هى فيه، كما يستحيل أن تتمتع بما تتمتع به الشعوب المتقدمة من حريات شخصية وحقوق للإنسان كإنسان فى ذمة المجتمع بأسره.. حكامه ومحكوميه..
وتغيير الكيان الداخلى لهذه البيئات، يقتضى ممن يرغب فيه من أبنائها الذين تعلموا وتحضروا وفهموا يقتضى منهم إنفاق الأعمار والجهود والتكاتف الدائم الثرى الذى لا يعطله يأس أو يشعر به ملل. ومن الملاحظ أن المستعمرين لم يغيروا شيئاً من واقع البؤس للبلدان التى استعمروها وتظاهروا صدقاً أو احتيالاً بمحاولة فرض حضارتهم على بيئاتها.. وقد أسفرت محاولاتهم المترفعة المتكبرة فى البلاد الأفريقية والآسيوية المحتلة أسفرت عن المزيد من تعلق هذه البيئات بأوضاعها الاجتماعية بحسبان ذلك حرصاً على الأصالة والتراث والمعالم المميزة لبيئتهم وجنسهم. وقد أشعل أوار هذه الاتجاهات مَنْ تعلم وتحضر من أبناء هذه البيئات على يد مستعمريها.. تعجلاً لرحيل المستعمرين والحلول محلهم فى الحكم والإدارة.. وقد تم هذا فى السنوات التى تلت الحرب العالمية الثانية، ومع ذلك لم يتغير حال تلك البيئات التى زادت فقراً وشقاءً واضطراباً واجتاحت أكثرها المجاعات والأوبئة والفتن والانقلابات والحروب الداخلية!!
لا مراء فى أن رحيل الأجنبى المستعمر، يهز بطبيعة الحال النظام الذى كان قائماً فى البلد المحتل، ويحتاج بالتالى إلى إقامة نظام جديد فعال وكفء يرمم ما كان، ويبنى ما يجب بناؤه، ويحتاج إلى وجود قيادات محل قبول فى الجماعة، وقادرة على التعاون والتساند وتبادل المشورة والمعونة.. وقد يندر وجود هذه الكفايات فى البلدان التى صادر الاستعمار الطويل على التعليم ونمو الكفاءات والقدرات فيها.. وهى كفايات عزيزة أصلاً فى الأنظمة والبيئات المتخلفة، ويحتاج بناؤها إلى وقت طويل من المران والتجربة والخطأ والتصحيح والصواب، وإلى اليقظة والفهم للاستفادة من الممارسة والتجربة.
الملاحظات التى عرضناها بالمقال السابق، ملاحظات أساسية ليست سهلة الاستيعاب والامتصاص؛ وهى تتوه فى غمار وضجة وحرارة العواطف الوقتية التى يشب لفحها وينطفئ وتثور وتدور حول هذا المتزعم أو ذاك.. وهذه المشكلة أو تلك من المشاكل التى لا ينقطع تواليها وظهورها لدوام أسباب ظهورها وتواليها وإغفال أو غفلة المتزعمين والمزعومين عنها. إذ السائد فى زماننا قبول الضجيج والصياح والانسياق إلى هدير الجهلاء والإنصات لما يصخبون به وما يرغبون فيه، دون دراية بعواقبه السيئة فى الحاضر والمستقبل، على المجتمع وعلى الصاخبين أنفسهم!!
وقد أدى هذا إلى استسلام توافقى واصطبار فى غير موضعه على ما يرتكبه الجهلاء والأشرار والحمقى من عبث وجرح وقتل وتخريب وتدمير، مما صار لديهم من قبيل العادة التى ألفوها واستيسروها لإعلان مشاعرهم التى تحركها فى الغالب أوهام وأضغاث أحلام متقلبة.. لا سبيل لتحقيقها لإمعانها فى البعد عن العقل والواقع، بالإضافة إلى انعدام من يستطيع أن يجمع شمل شتات هؤلاء أو يحشد أغراضهم الخائرة أو يواجه قواهم المبعثرة إلى تحقيق رغاب ومشتهيات يقتضى تحقيقها أزماناً ممتدة ودراية عريضة ومشاركة فاعلة ومتابعة حيّة ومثابرة وأناة وطول نَفَس.