الوطن
د. محمود خليل
"أم الفلوس"
فى بعض الفترات، تمسى بعض الأشياء التى كان يتخيلها العقل ضرباً من ضروب الشطط أو الخيال واقعاً ملموساً. فى السبعينات والثمانينات كانت أسرة الطالب الذى يحصل على مجموع صغير فى الثانوية العامة يغرد به خارج مكتب التنسيق تضطر -إذا كانت تمتلك القدرة- لتسفير نجلها إلى الخارج للدراسة فى إحدى الجامعات المجرية أو التشيكية أو فى جامعة بيروت وخلافه. وقتها كان الحديث عن وجود جامعات خاصة تقبل الطلاب بمجموع أقل من الكليات الحكومية المناظرة مقابل مصروفات ضرباً من ضروب الخيال، لكن الخيال تحول إلى حقيقة وواقع أوائل التسعينات، حين أصبح رجال الأعمال شركاء فى التعليم الذى أصبح «بفلوس». زمان أيضاً كان وصف «أعمال حرة» -الوصف الأصلى لرجل الأعمال- يطلق على غير الحاصلين على شهادات أو معدومى الكنية الوظيفية.

دارت الأيام دورة كاملة، وإذا بنا نقرأ عما هو أعجب. فقد وافقت الحكومة على تعديل بعض أحكام قانون تنظيم الجامعات بفرض رسوم (مصروفات) على الطلاب الباقين للإعادة تتراوح ما بين 3 آلاف و12 ألفاً من الجنيهات. ببساطة الطالب الذى يرسب سيعيد السنة على حساب أهله.

ستجد مَن يسأل: وهل تريد أن ندعم الطالب الفاشل الذى رسب؟!. السؤال موضوعى فأدبياً لا يليق أن ندعم طالباً فاشلاً، لكن ثمة سؤال آخر: ألا توجد وسيلة لإصلاح الطالب الراسب غير دفع الفلوس؟. وهل سيتم فتح فرص إعادة السنة له (الفرص محددة بحكم القانون الحالى) إذا دفع المعلوم؟. ألا يشجع امتلاك المال هنا على المزيد من الفشل أيها المُصلحون النجباء؟!.

دعك من هذا وانظر إلى التعديل من جديد وتأمل. نصّ التعديل على أن حصيلة ما يدفعه الراسبون سوف تخصص لتحسين الخدمات التعليمية. نفس هذا الكلام تجده حاضراً فى لوائح التعليم المفتوح بالجامعات المصرية، حين تم فتح أبوابها لكل من يريد أن يحصل على شهادة ويملك أن يدفع ثمنها. وهو النظام الذى تخلت عنه الوزارة مؤخراً وحولته إلى ما يسمى بـ«التعليم المدمج». ملايين الجنيهات كانت تتدفق إلى الجامعات الحكومية من التعليم المفتوح. نريد أن نراجع كم من هذه الملايين أنفق على تحسين الخدمات التعليمية.. وكم أنفق كمكافآت وأرباح للقيادات؟

أخشى أن يكون الاتجاه نحو تحصيل هذه الآلاف من الطالب الراسب خطوة تتلوها أخرى تتمثل فى تعميم الفكرة، بحيث يكون «الدفع واجب على الجميع»، ليتم الزمن دورته بعد ما يزيد على 60 عاماً من القرار الذى اتخذته ثورة يوليو بمجانية التعليم الجامعى، وتتحول الجامعات الحكومية إلى جامعات بمصروفات.

البعض يقول إن «المجانية أفسدت التعليم». هذا الكلام صحيح، فأوضاع التعليم بالجامعات بعد 1952 غيره قبلها، لكن المسألة ليس مردها «الدفع أو المجانية» بل أمور أخرى عديدة يعلمها مَن يتبنون هذه النظرية أكثر من غيرهم. أكبر دليل على أن التعليم لا يصلح بـ«الفلوس» هو مستوى خريجى الجامعات الخاصة «أم فلوس» قياساً بالحكومية، وكذلك المدارس الخاصة قياساً بـ«الميرية». هناك جامعات حكومية مجانية مصنفة عالمياً ولا توجد جامعة خاصة أو دولية مصرية تقع ضمن هذه التصنيفات. وأبناء القرى والنجوع والعشوائيات من تلاميذ المدارس الحكومية هم دائماً أوائل الثانوية العامة.. وسلام للخاص!.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف