بوابة الشروق
نيفين مسعد
ثلج أقل بياضاً
ها هو الثلج يتساقط من وراء زجاج البلكونة المطلة على الحديقة، وهذا أمر معتاد جداً في شهر ديسمبر من كل عام في تلك البلاد البعيدة. وكالمعتاد أيضاً تعزف الصغيرة على البيانو بجوار البلكونة، لكنها على غير المعتاد لا تهتم بما يحدث في الخارج، ولا تلقي حتى نظرة على الكرات البيضاء وهي تدق على باب البلكونة تريد أن تأخذ الإذن بالدخول. في أحوال أخرى كانت حلا تندفع إلى الخارج لتشارك في الاحتفال بنزول الثلج من السماء إلى الأرض، من أول اللحظة التي يكون فيها الثلج عبارة عن نتف رفيعة جداً كمثل الحلاوة الشعر وحتى يتحول إلى كرات صغيرة تروح تكبر مع الأيام. كانت تشعر حلا أنها تؤدي مهمة مقدسة وهي تحمل الثلج المتساقط في كفيها وتوسده برفق فوق العشب، إلى هذا الحد كانت تترفق به مخافة أن يرتطم بالأرض فيُشطَر أو ينكسر، ومن الداخل كان يأتيها صياح الأم. كثيراً ما حذرتها أمها من أنها إن مكثت طويلاً تلعب بالثلج قد يصبح أنفها طويلاً مثل أنف بينوكيو، وفي البداية انطلى عليها الأمر فهي لم تكن تعرف لماذا أصبح أنف بينوكيو طويلاً بهذا الشكل إلى أن أخبرتها أمها أنه أصبح كذلك بعد أن تساقط عليه الثلج، قالت لها: كل حبة ثلج سقطت عليه كانت تمطه قليلاً إلى الأمام حتى انتهى أمره إلى ما انتهي إليه، سألت حلا في رعب: أولم يكن أنفه ينكمش في الصيف؟ لا لم يكن ينكمش. ظلت حلا موسمين على الأقل كلما خبطتها كرة من كرات الثلج تتحسس أنفها لتطمئن إلى أنه مازال على حاله، ثم اكتشفت أن هناك خدعة كبيرة في الموضوع، وأن أمها كانت تراهن على أن الوقت لسه بدري حتى تعرف حلا أن أعضاء الجسم قد تتورم لكنها لا تتمدد، وأن قوانين الطبيعة التي تحكم حركة السوائل لا تسري على أنفها، وحينها ضحكت من قلبها الصغير وهي تتذكر جملة سعيد صالح الشهيرة: الناس معادن تتمدد بالحرارة وتتبربر بالبرورة، ولم تعد تخاف.
***
استمرت حلا في عزفها الجميل وقد صنعت داخل نفسها جداراً عازلاً يفصل بين صوت الموسيقي وصوت الثلج، شكراً لهذه الجدران الحنونة التي كثيراً ما وفرت لها الحماية من هزات نفسية كان يمكن أن تعصف بها كلما تعرضت لصدمة مفاجئة. عندما رحلت جدتها فجأة وكانت ملء السمع والبصر أشفق عليها الجميع، فحلا هي بنت الابنة البكرية وأول فرحتها ثم وهذا هو الأهم فإن جدتها كانت تكرر كثيراً أنها تشبهها وإن لم تكن في الحقيقة تشبهها، لكن بمنطق دع الأشياء الصغيرة تفرح أحبتنا- كثيراً ما استمعت حلا لأقاربها يقولون إنها فولة وانقسمت نصين مع جدتها. كانت صبورة عليها، تحكي وتُحَمي وتَحْمي وتعلم وتلاعب وتغدق، وكانت تسْلم رأسها لحلا متى شاءت لتصنع لها ضفيرتين رماديتين رفيعتين لكن لطيفتين، ثم وبعد كل هذا تفارقهم دون وداع وتذهب عند ربنا. لم تتعمد حلا أن تصنع جداراً داخلياً عازلاً بينها وبين سيل الذكريات الحميمة التي كانت تحاصرها من الجهات الأربع، لكن ماكينتها الشعورية اشتغلت بهمة نادرة وخلقت مفاصلة تامة بينها وبين تاريخها مع جدتها كأن شيئا لم يكن أو كأنها لم تر جدتها أبداً. كانت تسمعهم يستغربون من أنها وهي الحفيدة المدللة تتعامل بهذه اللامبالاة مع ظاهرة الموت، لكنها عندما وجدت نفسها بين خيارين: دهشتهم وانهيارها اختارت أن تدهشهم. وبعد ذلك تكرر الأمر في مناسبات عديدة.
***
عندما هاجمتنا كورونا قبل شهور فقد موسم الثلج متعته، وُضِعَت قيود صارمة على اللمة والتواصل واللعب المشترك هنا في المنزل وهناك في المدرسة. كانت حلا تتصل بليديا أو إيميلي أو روزي أو آدم أو أيِ من أبناء الجيران ليتشاركوا معاً في تقاذف كرات الثلج وفِي بعض الأحيان كانت هي تذهب إليهم. كان بينهم ثأر وانتقام وانتصارات وهزائم وشجار، وبعض خلافاتهم كانت تُحسَم في فناء المدرسة بعيداً عن عيون الأهل ورغماً عن أنف بينوكيو. لكن هذا كله لم يعد متاحاً، صدرت الأوامر بألا يجتمع أكثر من عشرة، أكثر من خمسة، أكثر من ثلاثة.. وماذا بعد؟ حاوَلت أن تسلي نفسها وتبحث عن السعادة في داخلها، لكن المنفعة الحدية للعب ترتفع في حالات التشارك وبالتدريج لم يعد هناك من يشاركها. بدا لها الثلج أقل بياضاً من عادته، أقل تكوراً، أقل جاذبية، ونشطت ماكينتها الشعورية من جديد، تكّون جدار عازل جديد في داخلها وأخذ يرتفع بالتدريج حتي أشرق عليها صباح أحد الأيام صارت تندهش فيه من أن الثلج كان زماااان يثير فضولها لمجرد أنه يعتلي الأشجار والأبنية وأعمدة الإنارة. انتبهت حلا إلى أن الشيء عندما يكون بمثل هذه الوفرة ومثل هذا الانتشار- تنكسر استثنائيته ويتوقف عن إثارة الفضول وهذا ما حدث معها، في الحقيقة هي حاولت أن تقنع نفسها بأن كل متاح غير مرغوب حتي تمرر لحواسها فكرة أن الثلج لم يعد يبهج.
***
لو أن كورونا جاءت قبل عامين عندما كانت حلا أقل وعياً ربما ما احتاجت أمها أن تخترع لها حكاية بينوكيو لتثنيها عن اللعب بالثلج فهي من نفسها لم تكن ستلعب، لكن الحمد لله الذي منح حلا وكل الأطفال عامين بدون كورونا يستمتعون فيهما بلون الثلج وملمسه. مرت الأم على صغيرتها وقد طال عزفها على البيانو، لاحظَت إهمالها تساقط الثلج على غير عادتها فقلقت وكل تغير في سلوك الأبناء يقلقنا نحن الكبار، حاولَت أن تتخابث قليلاً فقالت: كل سنة وأنت طيبة يا حبيبتي التلج نزل. ابتسمت حلا ابتسامة مجاملة واختارت موسيقي أغنية those were the days وراحت تعزفها في توحد تام.. يااااه.. مازال شيء في داخلها يحّن لأيام زمان .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف