الوفد
أمينة النقاش
على فكرة .. الصادق المهدى الذى عرفته
التقيت بالسيد الصادق المهدى أكثر من مرة فى الخرطوم وفى القاهرة، وأجريت معه أكثر من حديث صحفى، فضلاً عن المناقشات التى جرت بيننا فى لقاءات اجتماعية وأخرى فى المنتديات العامة، وكان اللقاء الأول فى أعقاب اتفاضة إبريل التى أطاحت بحكم «جعفر النميرى» عام 1985، وكان النميرى قد تولى حكمه بانقلاب مايو، وصف فيما بعد بالثورة عام 1969على حكومة الصادق المنتخبة بعد3 سنوات من رئاستها، وكانت التجربة المصرية التى قامت على إلغاء التعددية الحزبية، وأرست التنظيم السياسى الواحد فى صيغة تحالف قوى الشعب العامل داخل الاتحاد الاشتراكى العربى قد ألقت بظلالها على كثير من دول المنطقة، وبينها بطبيعة الحال السودان، ولعل الصفة الثورية قد ترسخت لنظامه عقب استضافته القمة العربية فى الخرطوم بعد نحو ثلاثة أشهر فقط من هزيمة يونيه 1967 التى صاغت ثوابت العلاقات العربية مع إسرائيل فى لاءات ثلاث: لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض.

طلبت من أعوان الصادق المهدى مقابلته، وكانوا يملأون شوارع الخرطوم كل ليلة، ليس فقط للاحتفال بسقوط النميرى، ولكن أيضاً للمطالبة بصياغات جديدة لمستقبل البلاد، تنطوى على سياسات تمحو إرثاً من الاستبداد والتخلف، لحكم انتابته شعوذة دينية مصطنعة، أفقرهم وأذلهم، وأشعل نيران حرب أهلية راح ضحيتها مئات الآلاف من المواطنين.

جاءتنى الموافقة على المقابلة بما أسعدنى: السيد الصادق سوف يستقبلك غداً على مائدة الفطور فى بيته فى أم درمان.

بيت كبير يشغل مساحة واسعة، يتخلله فناء واسع تحيط بجوانبه الأشجار الباسقة، ويقود إلى غرفة شديدة البساطة والأناقة، أظنها الغرفة التى أعدت للمهدى لاستقبال ضيوفه، فى تلك الجلسة تخلقت أمامى العناصر الأساسية التى تشكل شخصية الصادق المهدى، وأسقط المهدى فى اللحظات الأولى من المقابلة الحواجز وأقام الجسور بذكائه وتواضعه وبساطته، مع أن لديه ما قد يدفع للغرور والتعالى، فهو سلسيل عائلة المهدى الثرية التى حكمت السودان نهاية القرن التاسع عشر، وقاد خلالها جده الثورة المهدية ضد حكم الوصاية المصرى- البريطانى، وهو ينتمى إلى طائفة الأنصار الصوفية الجهادية، التى ألقت عليها بظلالها الدعوة السنوسية التى امتدت من ليبيا إلى السودان، وكانت حركة إسلامية ذات طابع إصلاحى، لكنه التعليم الذى تلقاه المهدى فى كلية فيكتوريا بالإسكندرية وجامعة أكسفورد البريطانية، والثقافة المتنوعة التى لم تقتصر على الثقافة الفقهية والدينية، هى ما تصنع رحابة الصدر واتساع العقل، وتسمو بالروح والنفس فوق صغائر الحياة.


فى أثناء حكم النميرى عارض الصادق المهدى القوانين التى رسخت له الاستبداد زاعماً أنها الشريعة الإسلامية، ووصفها بأنها تشويه للشرع الإسلامى، وأضاف أنها «عقبة فى سبيل البعث الإسلامى فى العصر الحديث»، وتم اعتقاله بسبب ذلك.

وخلال أربعة أعوام من رئاسته حكومة انتفاضة 1985 تجاهل الصادق المهدى كل المطالبات بإلغاء قوانين سبتمبر المنسوبة زوراً إلى الشريعة، على الرغم من أن حزب الأمة الذى يتزعمه وقع على ميثاق التجمع الوطنى الذى أسس لمنهج الحكم وسياساته بعد سقوط النميرى، وكان فى مقدمتها إسقاط قوانين سبتمبر التى قاد استمرارها إلى تمكين البشير من الانقلاب الإخوانى على حكومته المنتحبة، وانتهى بتقسيم السودان وتشكيل دولة إفريقىة جديدة فى جنوبه.

من تابع مسيرة المهدى السياسية، وقرأ صفحات من تاريخ الحركة المهدية، وبعض كتبه وحواراته الصحفية، وتأمل شخصيته الكارزمية سوف يتبين له كم رسخ منهج الدعوة المهدية فى شخصية المهدى، وهى دعوة لا تختلف عن الأسس الفكرية التى تروج لها جماعة الإخوان، حيث شكلت المرجعية الدينية نشاطه فى المجال الساسى، وعرقلت تثبيت إنجازاته.

ولعله تخلى عن برجماتيته فلم نقرأ له نقداً لدراويش الأنصار، الذين يؤمنون بفكرة أسطورية عن المهدى المنتظر، الذى سوف يظهر فى آخر الزمان، ويملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً، ورحل الصادق رحمه الله رحمة واسعة، دون أن يتحقق حلم الأنصار الذى لا أفق له.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف