الوفد
عباس الطرابيلى
هموم مصرية .. أمريكانى.. يا جاز!
شدتنى صورة رجل عجوز تجاوز السبعين من عمره، وهو يجر عربة على شكل برميل البترول، ويطوف بها على شوارع حى العجوزة.. وشدنى أكثر هذا النداء الذى يطلقه وهو يسحب عربته هذه بلونها الأصفر الذهبى.. وهو بالمناسبة لون واحدة من أكبر الشركات البترول التى ينتشر وجودها فى دول عديدة.. وكان النداء هو «أمريكانى.. يا جاز» وربما ورث هذا العجوز الذى يجر عربته هذا النداء عندما كانت هذه الشركة من أوائل الشركات التى اكتشفت البترول عندنا فى مصر بالذات فى منطقة البحر الأحمر وعند جمسة بالذات.
وكان الجاز، أو الكيروسين، المادة الأساسية للطبيخ وأيضا للإنارة.. وكان وابور الجاز «البريموس» السويدى من أهم ما يشمله جهاز أى عروسة، حتى قبل السرير.. وكان من حجمين عادى ثم أكبر قليلاً.. وحملت معى واحدًا منها عندما حضرت إلى القاهرة للدراسة فى جامعتها عام 1957. وكنا نملأ هذا الوابور بقرش صاغ واحد ولا مانع بجواره أن نجد الوابور السبرتو لزوم عمل كوب الشاى للمذاكرة بل كان وابور الجاز هذا أحد الأشياء التى يحرص على سرقتها أى حرامى!! أما لمبة الجاز فكانت ضرورية لكل بيت إذ كانت هى وسيلة الاضاءة فى كل بيت قبل أن تدخل الكهرباء هذه البيوت.. وكانت لمبة الجاز من مقاسات عديدة حسب حجم الغرفة المراد إنارتها.. ولا ننسى هنا لمبة الجاز السهارى التى كنا نستخدمها فى الاضاءة عند النوم، ومن هنا كان اسمها «السهارى.. أو السهارية» وكثيرًا ما كنت أقرأ أمهات الكتب على ضوء هذه السهارية توفيراً للجاز.. ولذلك كانت سيدة البيت تحرص على تلميع زجاجة اللمبة فى النهار استعدادًا للمساء.. وبالمناسبة كانت ست البيت تستغل هذه السهارية فى تسوية «قدرة الفول البيتية خصوصًا فى شهر رمضان».

وهكذا كان الجاز الأمريكانى من أهم الضرورات فى حياة المصريين وكانت عربات بيع الجاز ضرورية لتوصيل هذه الخدمة إلى كل بيت ولما نشبت الحرب العالمية الثانية وحرصًا من الدولة على توفير هذا الجاز كانت تقوم بتوزيعه على البيوت بنظام الكوبونات وحسب عدد أفراد كل أسرة.. وبلغ من حرص الأسرة على هذا الجاز أنها كانت توفره ليستخدم فى الاضاءة.. وعند الطبيخ كانت كل أسرة تستخدم الكانون ولو كان قالبين من الطوب فى ثلاثة اتجاهات مع أى مخلفات أو بقايا أخشاب أو أشجار.. وما ألذ حلة محشى الكرنب المطبوخة على هذا الكانون.. ونفس الكوبونات استخدمناها خلال العدوان الثلاثى على مصر فى أكتوبر 1956.

<< تذكرت كل ذلك وأنا أرى وأسمع بائع الجاز العجوز يمر أمس فى شوارع حى العجوزة.. وربما تكون هذه العربة هى آخر ما تبقى من عصر الجاز. ولمبة الجاز ووابور الجاز رغم أننا الآن ننعم بخطوط الغاز الطبيعى الذى يصل إلى البيوت وقبله وصلت الكهرباء ووسائل الطبخ الكهربية.. وأيضا الكهرباء الشمسية ويبقى النداء التقليدى الذى عشناه: أمريكانى.. يا جاز!!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف