الوطن
ياسر عبد العزيز
"تيك توك" و"مهرجان" و"ثوابت راسخة"
ثارت أزمة فتيات «التيك توك» وتأجّجت نيرانها منذ شهور، والآن يقبع عدد من هؤلاء الفتيات فى السجون بعد صدور أحكام قضائية بحبسهن، أو فى انتظار المحاكمة.

وإلى جانب هؤلاء الفتيات، نجد عدداً من المواطنين مختلفى الاتجاهات يقبعون فى السجون بعد صدور أحكام قضائية ضدهم بتهم ازدراء الأديان، أو ينتظرون صدور الأحكام فى قضايا تورّطوا فيها تحت هذا العنوان.

وعلى صعيد آخر، ما زال مطربو «المهرجانات» ينتظرون حسم قضيتهم فنياً ومجتمعياً، بعدما صدرت قرارات من جهات تم إنشاؤها بقوانين بمنع أدائهم للأغانى، بداعى تضمّنها كلمات «تخالف القيم والعادات» التى يتبناها المجتمع ويحرص عليها و«تجتهد تلك الجهات فى الدفاع عنها وحمايتها».

وأخيراً، برزت واقعة الموديل التى أجرت جلسة تصوير بملابس مثيرة للجدل وأوضاع لافتة فى منطقة الأهرامات، حيث قُدّمت فيها بلاغات، وتم توقيفها وتوجيه اتهامات لها، قبل الإفراج عنها بكفالة هى ومصور الجلسة.

ليست لدينا كيانات استطلاع رأى بما يكفى لكى نتعرّف إلى اتجاهات الجمهور حيال هؤلاء الشبان والشابات المدانين أو الماثلين أمام المحاكمات، لكن مع ذلك فإن محاولة تقصى اتجاهات الرأى العام عبر استطلاع المشاركات الكثيفة فى وسائط «السوشيال ميديا» حيال قضاياهم يمكن أن تشير إلى انقسام حاد وتضارب واستقطاب بخصوص تلك القضايا.

ينقسم المتفاعلون عبر «السوشيال ميديا» إلى فريقين كبيرين فى الغالب حيال تلك القضايا؛ أولهما يرى أن «كل» هؤلاء مخطئون ومتجاوزون يتربّحون أو يجنون الشهرة من خرقهم قيم المجتمع و«ثوابته»، التى يجب أن نذود عنها، وأن نجتهد فى حمايتها، وثانيهما يرى أن المجتمع والكيانات الرسمية التى استهدفت هذه الممارسات لم تكن موفّقة فى سعيها هذا، وأنها لجأت إلى تفسيرات حادة ومطاطة لمفهوم «القيم المجتمعية» و«الثوابت»، أو تشدّدت فى استخدام القوانين من أجل معاقبة هؤلاء الأشخاص بغير حق، وأن ذلك يمكن أن يجلب عواقب وخيمة على حالة الحريات وحقوق الإنسان.

ويدفع أعضاء الفريق الثانى الذى يميل إلى ضرورة إفساح المجال أمام تلك الممارسات المثيرة للجدل وعدم تسليط الضوء عليها أو اتخاذ إجراءات حادة حيال ممارسيها بأن طبيعة المجال الاتصالى الراهنة لا تقبل صيغة المنع، وأن كل ممنوع مرغوب، وهو أمر سيؤدى إلى انتشار الممارسات التى تشهد الجدل والانقسام، بدلاً من الحد منها.

وفى المقابل، فإن أعضاء الفريق الأول يعتقدون أن ترك المجال مفتوحاً أمام هذه الممارسات سيعمّق أزمة المجال العام وسيزيد الشوائب التى تستهدفه وسيحوله إلى بؤرة للابتذال والاعتداء على «القيم» وسيغير صورة البلد وصورة المواطن وسيشجع آخرين على التمادى فى الابتذال والتدنى طلباً للمال أو الشهرة.

شاهدت حلقة من برنامج تليفزيونى مؤخراً كان ضيفها نقيب المهن الموسيقية المطرب الكبير الأستاذ هانى شاكر، وحين سألته المذيعة عن سبب منعه مؤديى أغانى «المهرجانات» من الغناء، أفاد بأن ذلك تم للحفاظ على «القيم»، مذكّراً بالذرائع التى سوغت بها النقابة سابقاً قرارها بالمنع، وهى لم تخرج عن انطواء تلك الأغانى على ما يمثل «تعدياً بكلمات تخالف العرف القيمى، وتتعدى على الرواسخ الثابتة للمجتمع المصرى».

لا يُعد هذا الكلام بعيداً عن الذرائع الأخرى التى اعتمدتها كيانات وهيئات مختلفة اتخذت قرارات أو إجراءات صارمة بحق أنماط أداء علنى (فيديوهات، أو صور، أو آراء، أو أغانٍ)، فهى جميعها لم تخرج عن تفسير لما يجب أن تكون عليه الحالة القيمية للمجتمع، وإجراء ضد من تعتقد أنه تجاوز هذه الحالة.

وعندما استعرضت المذيعة مع النقيب عدداً من كلمات الأغانى التى غنّاها بعض رموز الطرب المصريين، مثل السيدة أم كلثوم، أو الأستاذ عبدالوهاب، أو الأستاذ سيد درويش، وهى كانت مقاربة فى بعض تعبيراتها للكلمات التى لاقت الاعتراض فى أغانى «المهرجانات»، اكتفى بالقول إن «الزمن غير الزمن».

يعيش المجتمع وبعض هيئاته وكياناته الرسمية اضطراباً فى ما يتعلق بتحديد الحالة القيمية المرغوبة والجديرة بالحماية، وبسبب هذا الاضطراب تنتج مشكلات كبيرة.

والواقع أنه لا يكاد يمر يوم من دون أن نسمع عن صدام جديد بين كاتب أو مدون أو مطرب أو ناشط على «السوشيال ميديا» يريد أن يتمتع بحرية الرأى والتعبير، وبين سلطة تطبّق قوانين ولوائح تأخذه إلى السجن أو تغرّمه مالاً أو تقصيه من موقعه أو تمنعه من مزاولة نشاطه فى التواصل مع المجال العام.

يحدث هذا الأمر باطراد، سواء فى المجتمعات المتقدمة فى أوروبا وأمريكا الشمالية أو فى الدول الأقل تقدماً والأكثر سلطوية، وفى بعض الأحيان ينتج عن هذا الصدام غبار كثيف وانقسام مجتمعى، كما حدث فى الانقسام حول نشر «الرسوم المسيئة» أو ارتداء «الحجاب» و«البوركينى» فى بيئات أوروبية عدة.

لطالما استندت رؤى منع نشر الأفكار والممارسات التى تتحدّى مفاهيم مجتمعية مستقرة أو تُراد لها الحماية إلى تعبير «صيانة الأمن القومى» أو «الدفاع عن الثوابت والرموز» أو حماية «النظام العام».

يبدو إذن أن لكل مجتمع من المجتمعات خطوطاً حمراء يريد أن يحافظ عليها من دون خرق أو تجاوز، وتلك الخطوط تتفاوت من مجتمع إلى آخر، كما تتفاوت الإجراءات الرادعة المستخدَمة فى كل دولة من دول العالم، حسب عوامل تاريخية وحضارية وقانونية وسياسية متعدّدة.

تنطلق جميع أنماط المساءلة تلك من عبارات محفوظة ومكرّرة، تتعلق بـ«الثوابت الأخلاقية والقيمية»، وضرورة «الحفاظ على الجيل الجديد»، ودائماً ما تؤكد أن ذلك النوع من الفن أو الإبداع «لا يعبر عن قيمنا الراسخة».

والواقع أن ثمة حقيقتين يتم تجاهلهما فى هذا الصدد؛ أولاهما أن تلك الأنماط الرديئة ما كان لها أن تصدر وأن تروج وتنتشر إلا إذا كانت تعبر عن حالتنا القيمية الراهنة وتتجاوب معها، وثانيتهما أن إجراءات المنع والحبس لم تنجح سوى فى زيادة الإقبال عليها وتعميق أثرها.

والحل لن يأتى من خلال عمل المحاكم والأجهزة الرقابية وآليات الملاحقة والمنع وحدها، بل من خلال استراتيجية قومية، تقوم عليها مؤسسات عديدة، وعمل دائب لسنوات، تنهض فيه الدولة ورجال أعمال ومؤسسات مدنية بأدوار فى الإنتاج الفنى والتطوير الثقافى والفكرى.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف